أجواءٌ من الروح المعتمة بشقاء النفس مرهقة لا يعلوها صفاء قلبٍ؛ أو شيءٌ من الود الإلهي. تَعبرُ النفسُ على محيطها الأزلي؛ لا تدرك خطاها ولا تحسب فواصلها المتخمة بالغموض. إنها شكوى الجراح التي أرهقها الزمن؛ لا تبصر، لأن صاحبِها أشقى نفسهُ بتوافه لا مستقر لها. إن أذرفت الدموع لا يكفي لمرثية الجمال حملُها؛ ولا تكونُ على سفحِ جبلٍ، لو رأيتَها، إنما رأيت خيالاً بائساً، يوهم العيون الغارقة في الأحزان الظليلة. أيها الإنسان من رآك؛ إنكَ ظلٌ في باكورة الظلام الحائر، تحسب نفسك علمت كل شيء ولم تعلم إلا القليل. تنتزعكَ الطبيعة بأنفاسها المتوحشة بلحظةٍ زمنية لا تعلم مداها ولا تدرك مكانها. يا لكَ من ضعيفٍ لا تبصر ولا تستكشف ذاتكَ إلا بعد أن ينتهي زمنك الوجودي وتذهب هباءً بلا رجعة. أرأيت كيف أنك شقيٌ تتصارع مع أخيك على وهمٍ لا يزول إلا بعد رحيل أحدكما. قف وتأمل هذا الوجود؛ إنه عظيمٌ جداً لا تدرك مداه ولا تعلم حدوده، هل سألت لماذا؟ لأنك تائهٌ كإبرةٍ في كوم قش، وعالمك المستحدث مثلكَ تماماً لا يدركُ مداه. أرأيت الذي يشمر بيديه يحسب نفسه ملك الدنيا والقفار، وظن نفسه لا يبور ويعتقد كل ما صنعه هو من جهده وحده لا سواهُ شريك. ونسي وتناسى أن الجموع هي التي أوجدته واستوزرته في شؤونها. لكن ديدن الإنسان يظل دوماً في تكبر وازدراء على من حوله من البشر. إنها طبيعة بشرية غارقة في وحلٍ من الأوهام، فكلما حاول الإبصار؛ نجده ازداد عمى. فالطغاة الذينَ ظنتْ أنفسهم ماكثة ومستعمرة في الأرض، إنما هي تظن الوهم أو تعيش اللحظة التي عبرت عن كبرياء شخوصهم المتخمة بالغرور. ذلك الإنسان كلما شد عقاله وأبحر داخل مكنوناته العقلية أوحي إليه أنه وصل لأطراف الحقيقة؛ أو ربما وجدها كليةً، وكلما ازداد اكتشافه لغور عقله يتراءى له ما سبق وهماً، وهذا لا ينطبق إلا على الباحث عن المعرفة ويهمه المجريات المستقبلية وما يخفيه الزمن.( ليت أمتي العربية تراعي حقوق طالب العلم بكل جدية واحترام). ولكن ما يقلقنا ذلك الواهم بقوة خارقة ظن نفسه سلطاناً على الأرض لمجرد أصبح له نفوذه الخاص أخذ يبطش الضعفاء ويكيد المكائد على كل قوة توازي سلطانه. فالتاريخ يذكر لنا هؤلاء وصولاتهم البائسة التي لم تصل لمرادهم، وإنما كانت نهايتهم الانكماش على ذواتهم الصغيرة كنابليون وهتلر كيف أصبحت نهايتهما كمثل بدايتهما. ليس فشل التخطيط الذي يعبر عن هزيمتهم أو اتساع دائرة المعارك والحروب؛ وإنما هذه أسبابٌ ظاهرية وشكلية، ولكن إن بحثنا أكثر فسنكتشف أن هناك أسباباً كامنةً في أعماق الشخصية المتكبرة المجنونة بداء العظمة، والتفرد بالقرارات والإسراع بتنفيذها جرياً حول أوهام يراها صاحبها هي الأنسب لصناعة تاريخه ومجده الشخصي. وكل هذا على حساب الشعوب التي استوزرته بشؤونها وظنت أنه سيأخذ بيدها إلى جنة الخلد. الشعوب لا تتعلم شيئاً من التاريخ؛ تسحرها الشخصية الكارزمية وتغرقها بوهمٍ طويل الأمد، ولا تستيقظ إلا على نكستها المؤلمة، ولعلها تعلمت درساً في يومها هذا!