كنت أستند إلى كرسيّي القديم الذي فتحتْ فيه أخلابُ الزمن القاسية ندوباً غائرة في جسده الجميل، فخطر لي أنْ أعالجه من تشوهاته امتناناً لصبره وحضنه الحنون الذي طالما احتواني دفؤه، فقررت أن أَكسيه حلة بهية أصنعها بيدي، خصوصاً أني ورثت حبّ الخياطة وابتكار الحلول العملية من والدتي -رحمها الله-، فسرحتُ في ذاكرتي لأراها في زاوية جلية من زوايا الماضي وهي تمسك بالقماش الذي تنوي خياطته تتأمله وتقلّبه بين يديها وكأنّها تجمع شتات خيالاتِها فتوحّد بينها لتستظهر منها الفكرة، ثم تتناول ورقة فارغة وتصنع منها نموذجاً مصغراً لما ارتسم في خيالها حتى إذا تيقنت من نجاح الفكرة شرعت تهيئ المكان والأدوات والوسائل لتدهشنا بعد سويعات بالنتيجة التي غالباً ما تكون فستاناً أنيقاً مزنّراً بحزام من الورد الذي كانت تصنعه من بقايا الأقمشة، أو مطرزاً بالخرز، أمّا ثيابُ الأطفال فتلك عندها حكاية. هذه الخاطرة جرّتني للتأمل في الفراغ الذي خلّفه انصرافنا عن الحرف اليدوية وتعالينا عليها وبروز سلبيات كثيرة أثّرت في حياتنا جراء ذلك، فاعتماد المنتجات الجاهزة بديلاً عنها تسبب في إصابة أجسامنا بالوهن، وعضلاتنا بالضمور، وفقَدنا القدرة على التحمّل، وجفّت أهمّ منابع عواطفنا تجاه الأشياء فأصبحنا نتعامل مع منتجٍ بلا روح. إنّ للحرفِ اليدويةِ خصائصَ تحقّق للإنسان توازناً ضرورياً؛ لأنّها تزرعُ فيه قِيَماً عُليا كالصّبر، والمثابرة، والتّخطيط، وإدارة الوقت، وتقدير الذات، والشّعور بالانتماء، والاعتزاز بالهويّة، كما تنمّي قدراتِه العقلية، وإيجاد الحلول لمشكلاته، وتوسّع مداركه، وتطلق العنان لخياله فيفكّرُ ويتأملُ ويبدعُ، وبها يصون كرامته. وهي لا تتعارض مع التطور التكنولوجي بل هي تربته الخصبة وإحدى دعائمه. إنّني أتمنى على مديري ومديرات المدارس أن يحوّلوا حصص النّشاط الأسبوعي إلى ورشِ عملٍ لمختلفِ الحِرف اليدوية، وإجراء المنافسات بين المبتكرين، ويُكرّمُ المبدعون، وفي نهاية العام تُنظّمُ المعارض لبيع منتجات تلك الورش، ويكونُ للطلاّب نصيب من ريعها.