من وقت إلى آخر نشاهد فريقاً تطوعياً تأخذه مسؤوليته الاجتماعية في إطلاق حملة تنظيف شاطئ أو إحدى المساحات الخضراء في مسطحات الكورنيش، وهذا بكل تأكيد يجعل هذه المبادرات محلّ ثناء وشكر الجميع. وفي الوقت ذاته، تتواصل سلسلة السؤال المتعجِّب من مدى التناقض في إدراك بعضهم أو في ممارستهم مفهوم النظافة؛ ففيما نجد بعضهم حريصاً غاية الحرص على نظافة مسكنه والعناية بملبسه ومظهره، وهو ما لا يختلف أحد حول ضرورته، إلا أنّ مستوى الإهمال في العناية بالنظافة البيئية ينحدر إلى دركاتٍ سحيقة. ثنائية التناقض هذه يلاحظها أغلب النّاس، وتشكّل لديهم مظهراً مزعجاً، وتبقى تدور على محور رَحَاهم، في طرح يقارن بين ما يشاهدونه في بلادهم وبين ما في بلدان أخرى زاروها أو قرأوا عنها، وينتهي سؤالهم بسؤال مُفاصل، حينما يستفهمون في لغة تقريرية في قولهم: لِمَ لا تكون مدننا في نظافتها مثل نظافة مدن البلدان النموذجية. هذا السؤال لا يفارق وعي كثيرين، وقد تسترسل الردود في الإجابة عليه، ففريق يعيد المشكلة إلى مشكلة في الوعي الذي تحتويه ثقافة لا تمارس الازدواجية في ممارسة مفهوم واحد؛ فالنظافة هي النظافة، لا ترتفع ولا تتأخر مهما تنوع المكان وتباين الزمان. لكن هناك من يشير إلى ضرورة وضع أنظمة وجزاءات تطبق في حق المهملين أو المقصرين في رعاية الأماكن العامة، سواء في النظافة أو المظهر أو السلوك. وهذا الفريق يرجّح أن مثل هذا التقنين مطبق في كثير من البلدان التي نسميها نموذجية في نظافتها وجمالها. وللوصول إلى مستوى أعلى من الشفافية مع من يرمي علبة معدنية أو أعقاب السيجارة ونحو ذلك وهو يقود سيارته، ولا يلتفت إلى خطأ الطريقة التي قام بها، وهذا يأتي غالباً نتيجة الفهم الذي اختزنه العقل الباطن خطأً كذلك، ولعل في حركة تقليد لسلوك ما أو عدم تأمل في أول ممارسة خاطئة من هذا النوع، يتحول إلى فعل عادي، لكن هل فعلاً يمكن أن لا يخجل من يقوم برمي علبة من سيارته، فيجد عيون الجميع تحملق فيه. أظن أنّ تخيّل المشاهدة جهاز محاكاة للسلوك (ٍSimulator)، وهو يرصد مثل المواقف بصورة كارتونية، يمكنها أن تنفذ إلى شبكة الوعي داخل كل ذات لا تتفاعل مع الرسائل الشفاهية المعتادة؛ إذ كثير من الاعتياديات تتحول إلى رتابة يفر منها أغلب الناس، فكيف بالمهملين؟! ولعل في تغريدة صادمة ما يفيد أكثر من فعل رتيب، وفي هذا السياق وجدت عبارة كانت تعالج مشكلة من يستهين برمي النفايات في الطرقات أو الأماكن العامة التي يرتادها الجميع، وكانت العبارة على رغم حدّتها تفاضل في مؤداها بين من يرمي الفضلات على الناس، وبين عامل النظافة الذي يحرص على جمعها وإزالتها بعيداً عن الناس، لتكون تلك المقارنة القاسية واقعية ومقنعة. وليس بعيداً أن يكون في النصّ المسرحي «المزبلة الفاضلة» للمسرحي السعودي عباس الحايك، اختزال لبعض إسقاطات التغريدة، مع أن المسرحية لها سياق وتفاصيل أخرى. إن المدينة الفاضلة في أحلام أفلاطون لم تتنازل عن قيمتين أساسيتين هما: النظافة والجمال؛ فالنظافة مقدمة للجمال وملهمة له، وفي بلدان العالم تتسابق المدن على أن تكون بين أنظف المدن وأجملها. ومثل هذا التوق يتطلب ثقافة شعبية لا تفرق بين نظافة المنزل وبين نظافة المدينة، وتحرص على أن يكون مظهر الكورنيش والحديقة والتلال الرملية نظيفاً جميلاً، بنفس الدرجة التي تتعامل فيها هذه الثقافة مع معاني العناية الشخصية بالمظهر. إن التهاون بالنظافة العامة هو تعريض بالصحة البيئية وبالحياة الاجتماعية للأخطار، ولذلك تولي البلدان المتطورة في هذه المجالات أهمية كبيرة برفع مستوى التعاطي الرشيد الذي يعنى بالثقافة البيئية في المجتمعات الحديثة التي تعاني من تزايد المنتجات الصناعية المدمرة للغطاء البيئي، وهذا يضاعف المسؤولية الفردية والجمعية في الحفاظ على البيئة بكل أشكالها، وهذا هو من الشكر الذي يصفه الله تعالى في قوله: «لئن شكرتم لأزيدنّكم».