هل هناك ما يسمى بالموهبة الفطرية؟ موهبة تبرع فيها منذ الصغر دون تدريب أو مران أو ممارسة؟ وبالمقابل هل تستطيع أن تتفوق وتتميز بعد تدريب ومران مكثف في مجال كالفن أو الأدب أو العلوم أو الرياضة دون أن تكون من القلة المحظوظين الذين ولدوا بموهبة ضمن ذلك المجال؟ أم هل يكفي أن تولد بموهبة أو ميول فطري للرسم أو العزف أو للكتابة لتصل إلى البراعة والإتقان؟ هذا الجدل قائم وقد شغل كثيراً من علماء النفس والسلوك الإنساني عن الموهبة وعلاقتها بالتدريب والمران، وهل يستطيع وجود أحدهما أن يغني عن الآخر؟ الكاتب مالكوم قلادويل في كتابه "المميزون" الذي تناول فيه قصصا لأشخاص ناجحين والعوامل التي ساهمت في نجاحهم، سواء كانت شخصية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، قام باستعراض دراسات مستفيضة أجراها علماء وباحثون مهتمون بدراسة أعداد كبيرة من الموهوبين في مجالات الأدب والرياضة والفنون. النتيجة التي كانت تظهر مرة بعد أخرى هي أن إتقان أي مهارة يتطلب المران المتواصل عليها، وأن هذا المران يجب أن يستمر حتى بلوغ عشرة آلاف ساعة أي ما يعادل تقريبا عشر سنوات. حيث إن عازف الكمان البارع الذي يقوم بالعزف في الأوبرا يكون قد تمرن على العزف بمعدل عشرة آلاف ساعة، بينما العازف الجيد قد بلغ ثمانية آلاف ساعة من المران، في حين أن مدرس الموسيقى في المرحلة الابتدائية لم يتجاوز مرانه الأربعة آلاف ساعة. أي أن الذي يفصل الأداء البارع عن الأداء العادي قد لا يتجاوز 2000 ساعة. إن نظرية العشرة آلاف ساعة تكاد تكون دقيقة إلى حد كبير، حيث إن الدراسات لم تستطع إثبات وجود أشخاص تمرنوا لهذا العدد من الساعات ولم يصلوا إلى البراعة والإتقان، كما أنها لم تجد أيضاً من وصل إلى حد البراعة دون أن يمارس مهارته لمدة لا تقل عن عشرة آلاف ساعة. بل إن الدراسات أيضاً أشارت إلى أن أثر الموهبة دون مران مستمر لا يكاد يذكر، وأنك تصبح موهوباً وبارعاً في شيء لأنك تمرنت عليه ومارسته لوقت طويل، والعكس ليس صحيحا، أي أنه ليس بالضرورة أن تكون موهوباً لتصل إلى التميز. إن هذه النظرية تفتح لنا آفاقاً واسعة وأبعاداً أكثر رحابة في مفاهيمنا وأحكامنا تجاه التميز والنجاح. فإذا كنت من الأشخاص الذين لم يحظوا بنعمة أن يولدوا بموهبة يشار لها بالبنان فلا تبتئس، فبالممارسة المستمرة تستطيع أن تحسن من أدائك وتتطور في مجالك. إنها كذلك تعلمنا الصبر في التعامل مع أنفسنا ومع من حولنا، وأن لا نتعجل النتائج والقطاف، لأن البذور التي نغرسها ونسقيها ونرعاها تحتاج إلى وقت حتى تنمو وتترعرع وتمد ظلالها فوقنا. كثيراً ما نعتقد أن للموهبة دوراً رئيساً في التميز، وأنها في حد ذاتها بوابة عبور للمجد والنجاح، لكن الأمور التي نراها من الخارج بشكل سطحي ونحكم عليها بقطعية لا تعكس بالضرورة صحتها وحقيقتها؛ تماماً مثل جبل الجليد الذي لا نرى سوى قمته الصغيرة، دون أن ندرك ما تحته من قاعدة جليدية يفوق حجمها أضعاف القمة التي تظهر لنا.