ظاهرة اقتباس حِكم الفلاسفة في مواقع التواصل جديرة بوقفة وتحليل ونقد. أسماء لا تحصى تغرّد كل يوم في تويتر بحكمة قالها سقراط أو تقرير أورده أرسطو. هذه حكمة أخلاقية، وهذه كلمة عن السعادة، وتلك عن طريقة التعامل مع الناس. هي ظاهرة صحية بلا شك، فكلما زادت المعارف وتعددت المشارب، كلما كان هذا مفيداً لصحة المجتمع الفكرية. لكن ليعذرني الإخوة والأخوات إن قلت إني أرى قراءة الفلسفة التي انتشرت اليوم في السعودية، قراءة بعيون سلفية. كيف أعيب السلفية وأنا أقول إن عقيدتي سلفية؟ ليس المقصود هو عيب السلفية ولا الفلسفة هنا، ولكني أرغب في الإشارة إلى خلل منهجي يعتور قراءتنا للنصوص قديماً وحديثاً. ألا وهو أنك ترى أناساً تكتب لتعبر عن حالة وجودية كتابة جميلة، لكنك تتأمل المكتوب فتجد أنك أمام شخص استبدل نيتشه بالحسن البصري، ولم يفهم نيتشه، كما أنه لم يفهم من قبل ماذا كان يقول: الحسن البصري. لا أدري إن كان هذا واضحاً، أم أنه سيبدو كطلاسم، إلا أن مقصودي الأخير هو أن بحثنا عن المعنى لم يكن يذهب إلى الأعماق، كنا نكتفي بطرطشة الماء على الشاطئ. الأمثلة خير وسيلة للإيضاح، فخذ مثلا قصة واصل بن عطاء مع الحسن البصري، عندما سأل عن حكم فاعل الكبيرة، فتحرّج الحسن من تكفير من ينطق بالشهادتين، واجترأ واصل وحكم بأنه في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، وفي النار يوم القيامة. مثل هذا النص يأتي في سياق الحديث عن نشأة المعتزلة، لكن يندر أن تجد من يحاول أن يفهم هذه المحاورة السريعة التي أدت إلى المفاصلة والخصومة السريعة أيضاً، بين التلميذ والأستاذ. لم يكن الحديث عن أي فاعل كبيرة، بل كان عن الحاكم السياسي، فالتلميذ والأستاذ كانا متفقين على أن هناك ظلما اجتماعيا كبيرا يقع على الناس، لكنهما اختلفا في طريقة التعامل معه. اختار واصل طريق إخراج خصمه من دائرة الإيمان لكي يتخلص من الرابطة الدينية معه وبالتالي يمهد للثورة. واختار الحسن طريق الإنكار والإصلاح الذي لا ينزع يداً من طاعة، وذلك عندما سجل موقفه هو من واصل بقوله: اعتزلنا واصلاً (بسكون اللام). هذا لم يكن مجرد خلاف فقهي عقدي، بل كان تسجيلا لموقفين سياسيين متباينين، لمن يجيد مثل هذه القراءة. هكذا ينبغي أن نفهم مثل هذه النصوص، فلا نكتفي بإيراد مثل هذه القصة للحديث عن نشأة المعتزلة، ثم نتجاوزها من دون فهم ولا تحليل. هذا درس بسيط لمن لم يفهم نصوص الحسن البصري، وبالتأكيد لن يفهم نصوص هيغل ولن يعرف معنى مطارق نيتشه، لكي يتوقف عن استخدام المنهج الحرفي في التعاطي مع النصوص والفكر، وأن يترك كل هذا ليبحث عن المعنى. البحث عن المعنى هو غاية الفلسفة، والفيلسوف هو من يملك القدرة على التفلسف بعد أن ينسى كل النصوص التي حفظها عن نيتشه وهيغل وكنْت وسبينوزا. الفلسفة هي ما يبقى في عقلك بعد نسيان النصوص، لكي يمكنك من إصدار الأحكام الصحيحة.