قال «معارض سعودي» قال !    الشهادة التي لا تسقط بالرحيل    تنظيم الشاحنات الأجنبية يدخل حيز التنفيذ    تقنيات مبتكرة للاستدامة الزراعية    ملايين الأطنان فائض منسوجات تحت التدوير    التعليم السعودي يفتح خزائنه في سباق العشرين عالمياً    عينك على البحر.. عينك على المستقبل !    دبلوماسية الردع عن بُعد    ولي العهد والرئيس اللبناني يعقدان جلسة مباحثات رسمية    يايسله يرفض المبررات قبل مواجهة الريان    جيسوس يكشف أهدافه من مواجهة باختاكور    السد يتعادل مع الوصل في دوري أبطال آسيا للنخبة    الدوري أهلاوي    اختبار صعب لممثلي الوطن الهلال والأهلي    التسامح...    5 مواقع للتحلل من النسك    ضيوف خادم الحرمين للعمرة والزيارة يصلون مكة ويؤدون مناسك العمرة    الذهب يرتفع بفعل ضعف الدولار.. والأسهم الآسيوية تكسب بحذر    آثر من حدائق الإنسانية    فيصل بن مشعل يزور القضاة والمشايخ    الإعلام ثم الإعلام ثم الإعلام!    أمير الرياض يستقبل المهنئين برمضان من دبلوماسيين ومديري فروع حكومية    جوازات جدة تستقبل رحلات المعتمرين خلال رمضان    أمير الشرقية يستقبل سفير طاجيكستان.. ويطلع على أهداف "مقتدر"    أسعد بشيّه في ذمة الله    مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية يعيد الأصالة العمرانية لمسجد الرويبة    برعاية خادم الحرمين.. الأميرة فهدة بنت فلاح آل حثلين تكرّم الفائزات بجائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    «حماقي» يطمئن جمهوره على حالته الصحية بعد نقله إلى المستشفى    إعلامنا ما سنحققه غدًا    محلل إسرائيلي: حكومة نتنياهو تتصرف بشكل مغامر في جميع الجبهات    مجلس التنفيذيين اللبنانيين يعلق آمالاً كبيرة على نتائج زيارة الرئيس اللبناني    أمير المدينة يستقبل المهنئين بشهر رمضان    اعتماد أسماء الفائزين بالمسابقة المحلية على "جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن الكريم"    «صم بصحة».. جهود توعوية لجودة الحياة    لصيام دون مخاطر.. إرشادات لمرضى السكري    علامة HONOR تكشف عن إستراتيجيتها المؤسسية الجديدة    مركز الملك سلمان يدشن مشروع سلة"إطعام" الرمضاني    أمير المدينة يطلع على الخطة التشغيلية لرئاسة الشؤون الدينية    محافظ الخرج يشارك رجال الأمن وجبة الإفطار في الميدان    هل تواصل أسعار تذاكر الطيران الارتفاع في 2025 ؟    القادة العرب يبدأون بالتوافد على القاهرة لحضور القمة الطارئة    مَارَسَ الاحتيال.. «الفنانين العراقيين»: إيقاف مسار الحجامي 6 أشهر    من «مسافر يطا» إلى «هوليوود».. فلسطين حاضرة في منصة تتويج «الأوسكار»    أمير القصيم يستقبل العساف بمناسبة تكليفه محافظًا للرس    رابطة دوري روشن توضح: الأندية هي المعنية بتحديد أسعار تذاكر المباريات التي تستضيفها    المملكة تحيي ذكرى «يوم شهيد الصحة»    أمطار رعدية على مناطق المملكة حتى يوم الجمعة المقبل    السلمي يحتفل بيوم التأسيس مع "التوفيق" لرعاية الأيتام    السجن ل «حمو بيكا» بتهمة حيازة سلاح    67 % زيادة السجلات التجارية    في ختام الجولة 23 من دوري روشن.. الاتحاد يسقط في فخ التعادل أمام الأخدود    تصحيح فوضى الغرامات وسحب المركبات في المواقف    سرطان المريء في بريطانيا.. لماذا تسجل المملكة المتحدة أعلى معدلات الإصابة في أوروبا؟    بر سراة عبيدة توزع 1000 سلة غذائية    أُسرتا كيال والسليمان تتلقيان التعازي في فقيدهما    3500 قطعة أثرية تحت المجهر    جزر فرسان عبادات وعادات    الصميدي يتبرع لوالدته بجزء من كبده وينهي معاناتها مع المرض    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أن تكتب مثل نيتشة
نشر في الشرق يوم 08 - 10 - 2013

بين الفينة والأخرى أجد نفسي مرغما على العودة إلى نيتشة. ذلك الفيلسوف الكاره للفلسفة، الذي يحافظ على مرحه ببراعة وهو يخوض المعركة. العودة إلى نيتشة استعادة للتوازن، استعادة للذات الممتلئة التي تكتب ذاتها، وهي غارقة في رغبة كامنة للتدمير، لتحطيم أي شيء يحث على البلادة.. وأيضا لمعرفة كيف نتعاطى الفلسفة والفكر والمعرفة والأخلاق بالمطرقة.. القلم مطرقة تثقب.. تتطاير منها شذرات مرحة ساخرة هازئة وغاضبة أيضا.
إنه نيتشة الذي يعد كل ما هو رومانسي انحدارا لتغنج أنثوي.. والذي يتكلم في الآن نفسه عن عودة إلى الطبيعة .. إلى الفكر .. إلى الكتابة، ولكن بعد معالجتها بالمطرقة.. تكلم زرادشت ثم تكلمت المطرقة.. لكن الشيء الأساسي الذي تعلمنا إياه سخرية نيتشة اللاذعة هو كشف اللاقيم في القيم.. اللافلسفة في الفلسفة.. اللاكتابة في الكتابة.. إنه يعري الزيف، ويفرغ المضمون الأخلاقي الزائف من محتواه، أو يفرغ الأخلاق «الناجزة» من القيم.. وكل ذلك بلغة صادمة يتطاير منها الشرر.. نيتشة فعلا ديناميت !! وقراءته بالطبع لا تعني الإيمان بأفكاره، وهذا أول درس من نيتشة: التمييز بين القراءة والتلاوة..
وإليكم شذرة من هذا الابن العاق للفلسفة: «هل يمكن لحمار أن يكون مأساويا؟ -لكون الواحد ينوء تحت حمل لا هو قادر على حمله، ولا هو يستطيع أن يلقي به؟… إنها حالة الفيلسوف.».. هنا درس آخر: كلما وجدت نفسك منصاعا، فعد إلى نيتشة ومطرقته، فالانصياع ثقل لا يتجشمه إلا المنهك بتراجيديا «الحمار» أو الجمل.
جيل دولوز، وهو أحد فلاسفة الاختلاف، يفتتح قراءة نيتشة، بهذا الدرس، حيث يبدأ بسرد التحولات، كما عاينها الفيلسوف الساخط في كتابه «هكذا تحدث زرادشت» فالروح يصير جملا، والجمل أسدا، والأسد طفلا.. أما الجمل فهو الحيوان الذي يحمل.. ينصاع.. يتقبل السائد بسعادة بدائية.. الدرس الأساسي هنا، وكما يوضح لنا جيل دولوز، هو أن تحطم وضعية الجمل، أن تتجاوز، وتجعل من روحك أسدا متفردا، وحينها فقط، تستحق، وبجدارة، المرح النيتشوي، حيث ستلعب كطفل: «البطل مرح، هاكم ما لم يفهمه إلى الآن مؤلفو التراجيديا».
أن تكتب، كما يفعل نيتشة، يعني أن تتفرد، أن تُغضب الجميع، أن تَسخط حتى من ذاتك.. نقد الذات إضاءة أخرى، سيتنعم بها كل عابر على النص النيتشوي.. لم ينفك الرجل عن هجومه الشرس على المجتمع الألماني، فالنص مشحون بنبرته الغاضبة من الحداثة، كأنه يستبق نقادها المشاكسين، كمشيل فوكو ودريدا وجيل دولوز وغيرهم.
من منا قادر على مجاراة نيتشة، من منا يجاهر بنقد الذات كما يفعل.. الدرس النيتشوي يحثنا ليس فقط على النقد الاجتماعي والثقافي، بل أيضا بأخذه لأقصى مدى، واعتباره قيمة.. فضل.. صفة محبذة وخلق قويم، فالكتابة على غرار نيتشة، تكسر النسق والخضوع للرائج، كما تثير البلبلة عند المتلقي، إنها كتابة الضغينة: أكتب لا لكي يسعد القارئ، بل لكي يغضب، لكي يتعلم على الشك والريبة والمساءلة.
وإذا كان هيغل يقرأ الصحف كما لو كان يرتل مناجاته الروحية كل صباح، إذ الواقع حقيقي.. الواقع سعيد لأنه أفضل الممكن، فإن قارئ نيتشة يقرأ اليومي أو الصحف لكي يتذمر، ويكتب لكي يشيع التذمر، كما يكتب لكي يتفرد لا لكي يحصد الجمهور، الكاتب النيتشوي ليس نجما، ليس ثرثارا يكتب كما تحكي العجائز.
إن الكاتب النيتشوي يستدعي قارئا نيتشويا.. نص يخلق ناقده ومتلقيه.. فهو يكتب لا لكي يضحك على العقول، لكي يجاريها أو يدغدغ مشاعرها أو ميولها أو ما تريد.. هذا الكاتب يصدم دائما، إنه التجسيد الكامل للمبدأ الذي يحيل الأديب أو الكاتب أو كل محترف للفكر، إلى عدو، أعني المبدأ الذي سنه الشاعر الفرنسي المتوحد شارل بودلير، حين عرف الأديب على أنه «عدو العالم». ومعاداة العالم حماية للذات، وإلهام للكاتب النيتشوي، فهو ينتج النص لكي يفرغ ما بداخله من ضغينة، «الضغينة تحافظ علينا» على حد قول «سيوران» أحد التلامذة النجباء.
وعلى مقاس نيتشة، تبدو الكتابة نحت على الماء لا على الصخر، النص مراوغ، وما من حدود بين أجناس الكتابة، المقطوعة النثرية شعر متلحف بهالة من الغموض، الكاتب على طريقة نيتشة يحمي نفسه بغموض محبب ومرح وراقص.. «الفيلسوف مشرع – راقص».. هذا الغموض من شأنه أن يربك، ويثير استجابة حائرة، يلتذ بها المتلقي، الذي هو نظير الكاتب، يتسم بعزوف عن كل هراء للتسلية، عن كل وضوح لا يضيف شيئا، عن كل قول لا يقول شيئا، الكتابة الواضحة حماقة أو استغباء لا ينطلي على القارئ النيتشوي.. أن تقرأ كنيتشة، يعني أن تنفر من الوضوح، من المباشر، من الأحاديث المجترة.. وباختصار عليك أن تنفر من أدب المناسبة والحديث اليومي.
العرف النيتشوي لا يعبأ باليومي حتى وإن قرأ الصحف، الصحافة مدعوة هنا للتأسي بالخصال النيتشوية.. وبخلاف النظرة الشائعة عن الصحافة، النظرة التي تحيلها إلى قصاصات أو «حصص تعبير»، يوغل الدرس النيتشوي في نخبويته، فالكاتب لا يكتب إلا وفي نيته التملك، أن يتملك القراء، ويستأثر وحده باهتمامهم.. الكتابة مهمة عسيرة، إنها سديم مكون من كل الأجناس الأدبية، كتابة متجاوزة للنسق وكاسرة له، وعلى هذا النحو ستبدو القراءة أيضا استحقاق عسير، لكنها وفي الآن نفسه، سياحة.. متعة.. فسحة واسعة للتأويل.. الكتابة النيتشوية مسرح لأبطال مرحين.. لأن معلمنا نيتشة نفسه ليس سوى مفكر دأبه «أن يمسرح الأفكار».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.