في ظل التغيرات السريعة على المستويات الاقتصادية والثقافية، تتغير كثير من الثوابت الاجتماعية والدينية تماشياً مع تلك التغييرات، وبعد فترة تتحول التغييرات نفسها إلى ثوابت لا تقبل النقاش، من لم يلتحق بها فهو متخلف، يفوته القطار؛ فيموت وحيداً أو يبقى كتمثال في متحف شمعي تتعظ به الأجيال وتتندّر. هذه النظرة الإقصائية للمحافظين خطوة مهمة لدفع عجلة التطور والتنمية، كما أنها غريزة إنسانية، فالله أوكل للإنسان مهمة عمارة الأرض بعبادته وطاعته واستخلفه فيها، ولكل زمان ظروف لا تتفق مع ظروف الزمان السابق له، وقد لا تتماشى مع الزمان اللاحق، ولذا كان التغيير واجباً باستمرار، فعدم الاستجابة للتغيير لا تُخلّف إلا بطئاً في التقدم وشوشرة في المجتمع، وهي شوشرة قد تتم ترجمتها على شكل إرهاب حركي أحياناً. المحافظون ليسوا بضرورة الحال سائرين على النهج الصحيح، إنهم أولئك الرافضون للتغيير، إما لأنه يصادم العادات والتقاليد الجاهلية التي ورثوها عن آبائهم، وإما لأنه يصادم نظرتهم الدينية التي استقرت على مدى سنين؛ فلا تقبل زحزحة، وقد يرفض المحافظون التغيير لمجرد جهلهم به، فالمحافظون أنواع لكنهم يشتركون في رفض التغيير. والمحافظة مراتب يختلف التعامل معها باختلافها، فالنوع الأول: محافظة يستحيل تغييرها، بل الفائدة من تغييرها ضئيلة أو منعدمة كحال كبار السن، فهؤلاء مسايرتهم أولى من محاولة تغييرهم، لأن تأثيرهم على تأخير التنمية والتقدم أقل أهمية من الوقت والجهد المبذولين لتغييرهم. النوع الثاني: محافَظَة يمكن تغييرها، ولكن لا ينتج من وراء ذلك إلا المشكلات الاجتماعية دون طائل حقيقي، كحال الذين يتبعون آراء دينية أو اجتماعية قد تغيرت نظرة المتنورين لها، كمن لا تزال تتمسك بتحريم عباءة الكتف، أو من يرى عدم الأخذ من اللحية، أو من يبتعد عن التصوير لرأي فقهي يراه، هذا النوع من المحافظين يجب احترام رأيهم، والمعترضون عليهم إنما هم «ملاقيف» لم يعرفوا حدودهم. تجد أحياناً معارك «ضارية» تدور حول موضوع المعازف، وهو موضوع تافه لا يتعلق بالهوية أو بمستقبل الأمة حتى نتعارك حوله، شريحة كبيرة من مجتمعنا ترى تحريم الاستماع للمعازف وتمتنع عنه بشدة، وهذا شكل من أشكال المحافظة في مواجهة الذين أدخلوا المعازف في كل مكان وجعلوها شيئاً طبيعياً في المطعم والمستشفى والنادي والبيت، وجهة النظر الممانِعة هذه لا تستوجب المناقشة أصلاً لأنها اختيار شخصي لا دخل لأحد فيه، والسخرية منها دناءة، ولأصحابها حق المطالبة بتطبيق اختيارهم في الأماكن العامة لأن تشغيل الموسيقى يضرهم وإغلاقها لا يضر أحداً، خصوصاً لو لم يكن المكان مخصصاً للموسيقى أو مقصوداً لأجلها، كما يحق لهم السعي لإيجاد أماكن خالية من الموسيقى وتوفير قنوات مرئية وسمعية تراعي اختيارهم الفقهي، هذه المطالب شخصية بحتة لن تؤدي إلى أي خلل تنموي أو تخلف ورجعية إلا في أذهان الواهمين، هؤلاء الواهمون هم الذين يجب إزاحتهم عن طريق الحريات الدينية والاجتماعية، لأنهم يخلقون مشكلات تشغل المجتمع وتؤجج الفتنة دون طائل. النوع الثالث: المحافظة التي تضر بالآخرين أو تعطّل التنمية دون مبرر شرعي، كالتمسك بعادات زواج معينة تضر الزوجين، أو بعادات أبوة وأمومة تضر الأطفال، ومن صورها هذه الأيام: المعترضون على «الاختلاط» في معرض الكتاب، مع أنه لا يكاد يقول بتحريم هذا النوع من الاختلاط أحد قديماً ولا حديثاً، تسمع بعض «المحافظين والمحافظات» يطالبون بإفراد أيام للنساء بحجة الخصوصية، وأي خصوصية في شراء الكتب؟ فهذا اختيار شخصي يؤدي لتكريس مبدأ خاطئ في المجتمع، وهو فوبيا اختلاط الجنسين، كما أنه يؤدي لتكلفة اقتصادية لا مبرر لها، وما معرض الكتاب إلا تطبيق ضمن سلسلة من التطبيقات «المحافظة» تستهدف المكتبات التجارية والمستشفيات والأسواق حتى تصير بدعة ما فعلها الرسول ولا أصحابه، ولعل أخطر خصائص هذه المحافظة أنها تحاول طمس كل ما يهدد بقاءها بتفسيقه أو «لبرلته»، وأحياناً تخوينه سياسياً، وتسعى لإلغاء الآراء الفقهية المخالفة ومنع الكتب المناهضة بل والتحذير من رموز دينيين لمجرد اختلافها معهم، فهذه هي المحافظة التي يجب كسر أنفها وإزاحتها عن طريق الأمة. إننا يجب أن نتمسك باحترام التعاليم الدينية واحترام الحرية الشخصية في حكمنا على الأشخاص والتصرفات، وألا ننصب أنفسنا أعداءً لتوجهات تيارية معينة بشكل أعمى، مجتمعنا -مع سعينا لتحرير عقليته- يبقى مسلماً، ولكنه بحاجة لكسر قيود دامت سنين طويلة حتى تحولت العادات لعبادات ما أنزل الله بها من سلطان.