تذهلك إحصائيات معرض الكتاب الدولي في الرياض كل عام، سواء من حيث أعداد الزوار أو مبيعات الكتب، التي يتناقل الناشرون بينهم على أن إيراداته في كفة وبقية معارض الكتب العربية في كفة أخرى. في المقابل نجد من يدعو لمقاطعة معرض الكتاب، والطعن فيه ومحاولة عرقلة مسيرته بشتى الطرق. إلا أن الحضور الكثيف من الزائرين والزائرات يشير بلاشك إلى أن الفكر والمعرفة لا سبيل لمواجهتها بأساليب بدائية، مثل المنع والتخويف وإرسال الإشاعات والخزعبلات، بل تحتاج إلى الإدوات نفسها، فالكتاب نتاج العقل، وسينهار كل ما يتصدى له دون أن يستعين بالعقل والمعرفة. هل تدل دعوة المقاطعة على رغبة كامنة في سيادة الجهل؟ المتحصن بالمعرفة والفكر يتخفف من الخوف والدفاع المرضي، ويتخلص بوعي عن نظرية المؤامرة، وكأن كل صيحة عليهم، بل تجده مستفيداً من الآخر ومفيداً له، دون غضاضة ولا عقدة نقص. مرّ مجتمعنا بالعديد من كوابح التجديد، ولكنه استسلم لها لاحقاً، بل وانخرط فيها بوتيرة سريعة، وتناسى مخاوفه نهائياً، لو نذكر بعضها للجيل الحالي لأصابته الدهشة والاستغراب من مدى سذاجتنا حينها، لو قلنا عن تحريم الراديو، والبرقيات على أنهما من عمل الجن، وصولاً إلى تعليم البنات، التلفزيون، الجوالات، الصورة الفوتوغرافية... والكثير الكثير. بالطبع فإن شبابنا حين يطلعون على تلك الممانعات القديمة لن يخطر في بالهم إلا مفارقاتها الساخرة، فلن يستوعبوا مدى التناقض بين التيار الذي كان ممانعاً للمستجدات العلمية والثقافية، وكيف أن نفس هذا التيار يمارسها الآن بعنفوان متعطش، وكأنه الذي ابتكرها وليس الذي وقف سداً في وجهها، حرمها وألصق بها شتى أنواع الشرور. ولتقريب المسألة لنتأمل الممانعة الشرسة للسينما، في حين نقرأ عن قيام أحد معسكرات الدعوة في الشرقية بعرض عشرات الأفلام على روادها، أو حين نتذكر تحريم قيادة المرأة للسيارة قبل سنوات، والآن نسمع عن زوال التحريم وتحول المانع إلى شأن اجتماعي. وبالمثل، عندما تقام مسرحية أو حفل موسيقي، أو مهرجان للثقافة والفن، من الجنادرية مروراً باحتفالات جدة (ومهرجان عسير سابقاً)، وفعاليات أمانة الرياض الفنية في الأعياد، ومهرجانات أرامكو السعودية الثقافية، ستجد التجييش العاطفي ضد هذه الأنشطة، واستخدام الدين لوأدها، بدءاً من شيطنتها وإلصاق شتى أنواع الشرور التي لا تخطر على بال، وانتهاء بتحريمها. ولو حاولنا ببساطة أن نذكر بأن حق الاختيار يكفل للناس اختلافاتهم، فمن شاء أن يختار كتاباً ما فليس بالضرورة لازماً لسواه، ومن رغب في حضور مسرحية، لن يجبر غيره بها، كما أن من يستمع إلى ندوات الدعاة سيجدها وافرة ولها روادها. هل من المصلحة العامة لأي مجتمع أن يتشابه أفراده، أم أن المصلحة في التنوع؟ نشر منذ أيام في صحيفة الجزيرة عن حادثة تنفيذ حد القتل على رجل قدم للحج من الخارج بحكم أنه ساحر، لمجرد وجود بوصلة وأوراق بلغة آسيوية في متاعه، طبعاً كان ذلك قبل عقود. أليست هذه مأساة؟ وعلى ماذا تدل؟ كل ما أخشاه أن تستمر ذهنية المنع والتحريم، في إنتاج نفسها، فما أشبه الليلة بالبارحة.