مدخل: في ملاحظة أولية: أود القول، أنه ليس من عادتي الإطالة في المحاضرات المنبرية، حتى لا يمل الجمهور، ولكنني أستميحكم عذرًا هذه الليلة بالصبر علي قليلًا، لعلنا نوفي هذا العلم الرائد، جزءًا -ولو يسيرًا- من حقه علينا جميعًا، فقراءة آثاره الريادية، وتحليلها، تحتاج إلى عدة كتب، وليس إلى دقائق محدودة، وهذه الورقة أساسًا مستلة، من دراسة مطولة، بعنوان «زحام الأولويات»، أسعى إلى أن تكون فصلًا من كتاب عن قضايا الريادة الرواد، في الأدب السعودي. وفي كل الأحوال.. فمن حسن الطالع، أن آثار السباعي، وخاصة الإبداعية منها، ثرية وشيقة، ولا تجلب الملل. ولهذا، وبما أننا في نادٍ أدبي، فإن التركيز سيكون بشكل أكبر على الآثار الأدبية، لأن إبداعات السباعي، في السيرة والقصة والرواية، مثلت مرحلتها بصدق، وحاورت سياقها، وعبّرت عنه، وأهم من هذا كله، أنها مفتوحة على آفاق واسعة، ولم تفقد قيمتها مع الوقت. وعندما نأخذ أنموذجًا واحدًا، كرواية (فكرة)، على سبيل المثال، نجد أن زاوية النظر إليها، تكتسب أبعادًا جديدة، كلما صدرت رواية محلية حديثة؛ لأن الطفرة الروائية الحالية، عادت بشكل ارتدادي، وأعادت الاعتبار، لروايات الرواد؛ فكما أن تلك الروايات الأولى، أعطت للرواية المحلية أصلًا وجذورًا، فإن الروايات الجديدة، منحت للروايات القديمة، عمقًا واستمرارًا وسلالة، وأتاحت مساحات واسعة للمقارنات، والتقاطعات الدلالية. والتركيز هنا، على آثار السباعي الإبداعية، لا يمنع أن في آثاره الأخرى، مجالًا رحبًا، للمتخصصين في الدراسات التاريخية والاجتماعية والسلوكية والتربوية وله في العديد من هذه الجوانب، أوليات معروفة، فهو مثلًا: مؤلف أول كتاب وطني لتدريس القراءة العربية، وأول كتاب عن مهنة الطوافة.. وهكذا. علاوة على أننا نجد دلالات إضافية، في كل هذه المجالات، منها أن السباعي دائمًا، كان صاحب رسالة وموقف؛ فهو مثلًا، ترك الصحافة بعدما تحولت من صحافة للأدباء، إلى صحافة للمؤسسات التجارية؛ أي عندما تحول مفهوم الصحافة وغايتها، من رسالة إلى سلعة تجارية. (2) الريادة والرواد: وللدخول في الموضوع، أعرف أن أول قضية يمكن أن تثار في هذا السياق، تتمثل في السؤال التالي: * هل استعادة قضايا الريادة، وأعمال الرواد، مرة بعد أخرى، تدخل في باب التكرار، واجترار المواضيع المستهلكة؟. مثل هذا السؤال، يتردد دائمًا، مما يقتضي تحرير المسألة، من وجهين، على النحو التالي: أولًا: في رأيي أن الفرق يكمن في أسلوب المعالجة، فدائمًا يكون الجديد، في الطريقة التي تستعاد بها مرحلة الرواد، والنظر إلى أدوارهم برؤية مختلفة، وقراءة كتاباتهم، وخاصة الأدبية منها، بواسطة مناهج القراءة الجديدة، والتطورات المتلاحقة، لنظريات الاستقبال والتلقي والاتصال. وثانيًا: يكمن الفرق أيضًا، في عدم الاقتصار على ترديد المعلومات المعروفة، والقراءات السابقة، بل الانطلاق منها، لإضافة أفكارٍ، ورؤى، واقتراحات جديدة. ونعتقد اليوم، أن معرفتنا بأولئك الرواد، تتطور باستمرار، لأن المعرفة بطبيعتها، تقوم على التراكم. وهذا شأن الآثار الريادية دائمًا، فهي نبع لا ينضب من العطاء الفكري والمعرفي والجمالي، واليوم كم من دراسة فكرية أو ثقافية عربية، لا زالت تستعيد تأثير رواد النهضة الحديثة، أمثال: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورفاعة الطهطاوي، وفيما بعد، عبدالرحمن الكواكبي، ومالك بن نبي. إذ نجد أغلب الدراسات، تبدأ بآرائهم وأفكارهم، ثم تنطلق منها للتأسيس عليها. وفي الواقع المحلي، كان أولئك الرواد، ومنهم السباعي، يمثلون القوة الناعمة للدولة آنذاك، ومقومًا هامًا من مقوماتها، بنشر الوعي، والمساعدة على فتح آفاق التطور، ومواكبة تأسيس، عمليات التنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية؛ فكل دولة حديثة، تنشد النمو والتطور، تحتاج بالضرورة إلى طليعة متنورة، تقود المجتمع فكريًا وثقافيًا ومعرفيًا، وتساعد القيادة السياسية، في تثقيف الناس وتوعيتهم، وتهيئتهم للقرارات التطويرية. هذا عن دورهم في تلك المرحلة، فماذا عن دورهم في واقعنا اليوم؟. سنفاجأ، عندما نعود لأعمال الرواد، وأفكارهم، وأسئلتهم، بأننا لا نزال حتى الآن، مشغولين بكثير من تلك الأفكار، ونطرح أحيانًا نفس الأسئلة، ونكتشف أن عددًا من القضايا الفكرية والأدبية والثقافية الحالية، لها جذور في تلك المرحلة، وبالتالي فإن فهمها بعمق، يتطلب معرفة تاريخها، ومتابعة تطورها المعرفي، فضلًا عن رصد مسيرة الأجناس الأدبية، كالقصة والرواية والسيرة والمقالة. وفي الخلاصة، فإن شعبًا بلا رواد، شعب بلا ذاكرة حية، خاصة وأن أغلب رواد هذه البلاد، في كل المجالات، تميزوا أساسًا بصفات شخصية، كالأصالة والصلابة والحنكة، إضافة إلى مواهبهم الأخرى. وقد لا يتخيل أبناء الأجيال الجديدة حقيقة ما كان في ذلك الزمن من قلة الموارد المعيشية، وقسوة الظروف، وصعوبة الحصول على مصادر المعرفة، وضيق المساحة المكرسة للفرد في المجتمع، مما يكبح حركته، لو حاول الخروج عن دائرة الجمود والتقليد، وحاول انتقاد الأفكار والممارسات الموروثة والمستقرة. ولهذا «فإن أهم ما في آثار الرواد ليس الجوانب الفنية فقط، بل تتمثل القيمة الجوهرية لتلك الآثار، في أنها وثائقُ إنسانية وثقافية ومعرفية وجمالية متكاملة». (سحمي الهاجري، سجال الخطابات، نادي الأحساء الأدبي 1430ه, ص 19). (3) السباعي: ومع أن السباعي جاء بعد الرواد الأوائل، مثل العواد والأنصاري، إلا أنه مثل تغيرًا نوعيًا في طبيعة مرحلة الريادة، فقد بدأ خطاب الرواد آنذاك في الانتقال التدريجي، من سيطرة تجريدات الشعر، وتعاليه على الواقع المعيش، إلى التوسع في فضاء السرد، ونظام خطابه السوسيو – ثقافي الواقعي، فكان السرد باعتباره فعالية تنويرية، هو الفضاء الأدبي المناسب لتلك المرحلة، باعتباره معادلا، لتطور الوعي المدني التنويري. وبعد مضي هذا الزمن على مرحلة الرواد، بما يكفي من التأمل والملاحظة والفرز، فإن السباعي من أبرز هؤلاء الرواد تأثيرًا، وأكثر من تتردد آثارهم الريادية في الدراسات الأكاديمية، ومن ألصقهم بمعترك العمل والنشاط العام، والتفاعل اليومي مع حياة الناس، ومن أكثرهم تنوعًا في الأدوات والوسائل، أو ما يسميه علي الشدوي: «وسائط التنوير». (خطاب التنوير، ملتقى جماعة حوار، نادي جدة الأدبي، 2011م، ص16). والسباعي لم تقتصر إبداعاته على كتبه ومؤلفاته، بل نجده مبدعًا في المهام التي تصدى لها، وملتزمًا بأخلاقيات العمل، ومليئًا بالحماس لأي فكرة، يرى فيهًا صلاحًا لوطنه ومجتمعه. فمثلًا عند قناعته بأهمية المسرح، في رفع مستوى الوعي المعرفي والجمالي، ضحى بأرض تتسع لأربع عمارات، واستقدم المخرج والفنيين على حسابه الخاص، أي أن الهدف التنويري تغلب على الحس التجاري، والسباعي لا تعوزه القدرة التجارية، ولكن عندما تتعارض التجارة مع دواعي رفع الوعي، ينحاز للأخيرة بدون تردد. السباعي الأديب: أما وصفه بالأديب، مع تنوع آثاره الأخرى، إلى درجة تسميته مثلًا؛ ب «شيخ الصحافة»، و»شيخ المؤرخين»، فليس من باب المصادرة، أو التقليل من كل هذه الجوانب، وإنما لأسباب ثلاثة: أولًا: لأن السباعي من الرواد الأوائل، الذين حازوا جائزة الدولة التقديرية في الأدب عام 1403ه. وثانيًا: لأن الأدب هو المصدر الأولي للمعرفة، وهو أمر وعاه الرواد منذ البداية، وكان بوابتهم الأثيرة في الدخول إلى قضايا الشأن العام، يقول محمد حسن عواد في كتاب «خواطر مصرحة»: «الأدب هو أول الطريق، وسبيل النهوض». (خوطر مصرحة، الأعمال الكاملة، دار الجيل للطباعة بمصر، 1981م، ص 62، ص 98). وثالثًا: ما سبق ذكره، بأن التركيز، سيكون على أعماله الإبداعية، في القصة والسيرة والرواية. تكوينه: ولا بد هنا من التأكيد، مرة أخرى، على أن السمات الشخصية للسباعي، كان لها أثر كبير في مسيرته كلها، فهو إنسان عصامي، صنع نفسه بنفسه. ومهما قيل عن تأثره بالأدب المهجري، أو ما قاله صراحة عن أثر مصر وأدبائها عليه، ولكن ذلك لم يكن مجرد معارف يتوفر عليها، أو معلومات يحفظها، بل تمثلها في وجدانه ووعيه، كما يتمثل النبات ضوء الشمس، ولم يتهيب أن تكون له شخصيته المتميزة، ولهذا تفرد برؤيته الخاصة، وجاء إنتاجه شاملًا وموحيًا وملهمًا. ولا يمكن إغفالْ مصادر تكوينه المحلية، ولن أكرر هنا ما دونه عنها في سيرته الذاتية، لأن ما ذكره يظل قابلًا للإضافة، يقول مثلًا: «كانت ستّي تعرف عن «الدجيرة» و»هول الليل» و»السبع الجنيات» ما لا يعرفه قصاصٌ نابغة، فكنا نقضى حولها الليل وعجائبه فى صُوَرٍ تركت فى تربيتنا أسوأ الآثار، وملأت أعماقنا بالعُقَد». والسباعي هنا، ركز على الآثار السلبية لمضامين القصص، ولكننا نستنتج من هذا النص دلالة إضافية وهي أن طرائق الجدّة في حكاية عجائب القصص لا بد أنها زودته بمخيلة واسعة، وذخيرة غنية بأنماط، وأشكال، وأساليب السرد القصصي، وهي ذخيرة مكنته فيما بعد من التميز بأسلوب قصصي متدفق، يزاوج فيه بين لغة السرد وتراكيب الكلام، وتمثل الحكاية نواته الصلبة، ويتصل بنبعه الشفاهي بصورة واضحة، ويحتشد بموروثات الوجدان الجمعي لمحيطه الإنساني. (4) القصص: وأسوق المثال السابق، ليكون دليلًا واضحًا، على أهمية إعادة قراءة ما قاله السباعي، وما قاله الآخرون عنه، للخروج بنتائج جديدة. فعلى سبيل المثال، وصف أغلب النقاد، مثل: منصور الحازمي، ومحمد الشنطي، ومحمود رداوي، قصص السباعي، وأُعجبوا بها، وحللوها، ولكن بعض أحكام هؤلاء النقاد، جاءت على هيئة الإعجاب والتكريم والتعاطف، وهي أمور تهز الموثوقية العلمية والمعرفية، مع أن الدلالات الإجمالية لتلك النصوص، في إطار سياقاتها العامة، تضمن لها موثوقية مستقلة، فنية وجمالية ومعرفية وثقافية؛ مثل استخدام ملامح الحكي الشفهي، والإكثار من اللهجة الشعبية، للقرب من قرائه، وتمرير رسالته التنويرية، كما سيرد من أمثلة. وهو ما نظر إليه بعض النقاد منفصلًا عن هدفه وسياقه؛ مثلًا، يقول الناقد الأردني محمود رداوي: «يتربع السباعي على عرش الفن القصصي بجدارة، فسياق الحدث، وتحليل الشخصيات، والوصف الشيق، واللغة الطيعة، تتضافر لديه لتمنحنا أثرًا فكريًا ووجدانيًا، كان هاجس الكاتب وشاغله». (رداوي 56/57). وكلام الرداوي الجميل، يتضح منه، وكأن النص في الأساس، موجه للقراء في زمن الناقد، بدلالة قوله (لتمنحنا)؛ وبدا من تحليله أن (هاجس السباعي وشاغله)، هو نظرية الفن للفن، مع أن كل الشواهد، تدل على أن أولئك الرواد، كانوا يكتبون الأدب للحياة. والرداوي هنا يغفل جانبين مهمين، وهما: قصدية الكاتب، وطبيعة المرحلة؛ فالأجيالُ التالية، كان عليها أن تقرأ كامل المجال الدلالي للنصوص، بما فيها سياقات الإنتاج وسياقات التلقي المحايث. وفي الوقت الذي تبرز فيه عبارات الإصلاح والتنوير ورفع الوعي، بصورة مباشرة في مقالات السباعي، وكتاباته التاريخية والاجتماعية، نجده -وبصورة أعمق- في أعماله الإبداعية، يستخدمُ أساليبَ وتكنيكاتٍ فنية، تعزز نزعته الإصلاحية، وتوصلها إلى المتلقي، فهو يهتم كثيرًا بعقل القارئ وروحه, باعتبارهما هدفه وميدانه في الوقت ذاته, ولذلك يحاول أن يجعل القارئ دائمًا في الوضع المريح, والمكان المناسب؛ ويسوق له الأمثولات التي يحبها، ويختار الشخصيات والنماذج القصصية القريبة إلى نفسه، ثم يترك تلك الشخصيات تتحدث بلهجاتها الخاصة، التي يألفها القارئ، ولو كان هذا على حساب اللغة الفصحى في أغلب الأحيان، ولكنه يعوض ذلك بالأسلوب الساخر، وسلامة التراكيب، ورشاقة العبارة، وتخطيب الحبكة، والاعتناء بعنصر التشويق، وجذب اهتمام القارئ بالعبارات التنبيهية. وهي مهارات وملكات، يمتد نبعها عند السباعي إلى قصص الجدّة، ثم طورها بالقراءة والكتابة. ورغم أن السباعي لم يصدر إلا مجموعة قصصية واحدة، ولكنها كانت كافية لتضمن له كل هذه السمعة المدوية في عالم القصة، وتمنحه لقب «رائد القصة الفنية» الذي أطلقه عليه الدكتور إبراهيم الفوزان منذ وقت مبكر. (د إبراهيم الفوزان، الأدب الحجازي الحديث بين التقليد والتجديد، القاهرة مكتبة الخانجي 1401ه 1981م، ص 1303). ولأن السباعي، يتكئ على الأسلوب القصصي، في بقية كتاباته الأخرى، كالمقالة والتاريخ والخواطر، فإن هناك اتفاقا بين النقاد، على أنه: «كاتب قصصي بالسليقة، يمتلك حاسة درامية، وينزع إلى رؤية الحياة، في صورتها الحية، المضطربة، المتحركة، لا في صورتها التجريدية، الساكنة، الجامدة». وأن «(روح الكاتب الأصيل) هي جماع فنه ومعقد كتاباته». (د. منصور الحازمي، الوهم ومحاور الرؤيا ص 237). وتعتبر قصة «خالتي كدرجان»، التي اختارها السباعي عنوانًا لمجموعته القصصية، من أشهر قصصه التي تُرجمت إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، واُختيرت ضمن منهج القراءة الحرة في المرحلة الثانوية بالولايات المتحدةالأمريكية. (صحيفة عكاظ، ع 1508، الأحد 4 ذو القعدة 1429ه، 2008م). وإن كانت قصة «صبي السلتاني»، أيضًا، من أكثر القصص تمثيلًا لطريقة السباعي في القص، ولأسلوبه الساخر المحبب لدى القراء، وهذه القصة، تحفل بعدد من الأمثولات، يمررها الكاتب إلى وجدان القارئ، ليرفع وعيه المعرفي والجمالي، ويُحْيي فيه نزعة النقد الذاتي. يقول السارد، في أحد مقاطع القصة: «يرسله عمه بعد انتهائه من خدمة الزبائن. - (خذ يا بو طافش)، (الزبدية) اشتر فيها ربع أقة سمن للبيت. فيمشي إلى السمان، ويزن له السمن، فتستوعبه (الزبدية)، إلا شطرًا ضئيلًا بقي في كفة الميزان.. وهنا يتجلى الذكاء، فقد نظر فإذا في قاعدة (الزبدية) قاع مجوف، يسع بقية السمن، وقبل أن يطيل التفكير، قلب (الزبدية)، ليتلقى بقية السمن في قاعدتها المجوفة، فإذا السمن الذي في (الزبدية) يسبقه إلى الأرض. فوقف مشدوهًا، يتأمل غرابة ما حدث، وتداعت معاني الغرابة في رأسه، فرأى أن يتعمد.. فقلب الزبدية، ليتأمل جوفها، فما راعه إلا والسمن الذي في قاعها المجوف يسبقه إلى الأرض». (خالتي كدرجان، تهامة، جدة، ط2، 1981م، ص 26). وعندما تعالت ضحكات الناس، قذفهم بالزبدية وهرب، ومع أن عقدة القصة، عقدة مركبة، تنتمي إلى القصص البوليسية في جانب منها، وقصص الجاسوسية في الجانب الآخر، وهو ما لا يكتشفه القارئ إلا في نهاية النص، أي (لحظة التنوير)، مما حافظ على عنصر التشويق السردي، إلا أن الكاتب بأسلوبه الساخر، وظّف النص بمجمله، ليكون أمثولة، ومرآة، تكشف نمطًا شائعًا من بعض طرائق التفكير غير المنطقية في المجتمع، فكثير من الممارسات الاجتماعية، لا ينتبه الناس أنها تشبه تصرفات (أبي طافش)؛ فقد يرتجلون قرارًا في غير وقته، أو يبدؤون مشروعًا بدون تخطيط سليم ثم يكتشفون قصوره، أو أنه فائض عن (زبدية) عوامل الواقع فيركزون على الترقيع و(اللصمقة)، أي اللجوء لقعر (الزبدية)، فتنطمس معالم الفكرة الأولى، وتندلق من زبدية الواقع، وعندما لا ينفع الترقيع، يعودون فيقلبون (الزبدية)، ويندلق الترقيع بدوره، وهكذا... والمبدع هنا، يصوغ هذه الأمثولة، في نص أدبي شيق، يضمن لها البقاء، لتظل حكمة خالدة، لكل ذي بصيرة، على مر الأزمان؛ لأنه يضع أمام عينيه، بأسلوبه الساخر الرشيق، مرآة يرى فيها نفسه، ويتفرس في عيوبه. ولأن السباعي حادب على تنوير قارئه آنذاك، فهو لا ينسى أن يساعده على التفاعل، وذلك، بإدراج بعض العبارات التي لها دلالات هامة في أدبيات التلقي؛ مثل قوله في قصة «اليتيم المعذب»: «أعتقد أن القارئ سوف لا يفوته أن (الواد) الذي عزمت السيدة أن ترتاح من خلقته، ليس هو إلا طفلنا، الذي تركنا الرجل الطيب ينقله من الصحة إلى البيت». (خالتي كدرجان، ص 39). وقوله في قصة «صبي السلتاني»: «ولعلنا نسينا أن نذكر، أن وقائع القصة كانت في أواخر العهد التركي». (خالتي كدرجان، ص 30). وهذا تكنيك مقصود وليس نسيانًا، وإلا لكان من اليسير على الكاتب أن يستدرك الأمر، وينقح القصة قبل نشرها. ومثل هذه العبارات, لا يحتاجها القارئ المتمرس، لأنه سيعرفها من سياق الأحداث، ولكن إيراد السباعي لها يدل على نظرة الكتاب في ذلك الوقت إلى مستوى وعي القراء، ولهذا يستعيرون من تراث القصص الشعبي، مثل هذه التنبيهات السردية، وهي تنبيهات كان يستخدمها الحكاء الشفهي، لربط مستمعيه بأحداث القصة. وقصة «صبي السلتاني» تذكرنا بقصة «جمبل الأحمق» لإيزاك سينجر الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1978م، ومن الموافقات أن القصتين كتبتا في فترة واحدة، فقصة «جمبل الأحمق» كتبت ما بين عامي 1953-1956م، وهي المدة المرجحة لكتابة قصة «صبي السلتاني»، وبين القصتين كثير من التقاطعات، ومواضع الاختلاف والائتلاف، ف «أبو طافش» مثلًا، كان يستخدم الحمق لخداع الآخرين، بخلاف (جمبل)، الذي كان يعاني من خداع الآخرين وقسوتهم. وقد يجد دارسو الأدب المقارن، في أمثلة من هذا القبيل، مجالًا واسعًا للخروج بعدد من الدلالات الموضوعية والشكلية؛ مثل العقلية العربية، المثقلة بنظرية المؤامرة، والعقلية اليهودية، المسكونة بهاجس الشتات والغيتو، وقسوة الأغيار، وأثر كل ذلك على طريقة اختيار المضامين القصصية، وطرائق السرد.. وهكذا. واشتغال النقاد على قصص السباعي، يأتي من حيث العمق والمساحة، في المنطقة الوسطى، بين اهتمامهم اللافت، بسيرته الذاتية، واعتنائهم الأقل برواية (فكرة)، وهو أمر طبيعي، قياسًا بدرجة التعقيد النقدي, كلما ترقت النصوص، في معارج التعاليات الفنية والجمالية؛ بدءًا من السيرة المباشرة، القادمة من منطقة الذاكرة، مرورًا بالقصة ونطاقها القصير، وإن امتزجت فيها الذاكرة بالمخيلة، ولكن ليس بالدرجة التي يوفرها الجنس الروائي. ولهذا ستحاول هذه الورقة، أن تعكس الترتيب الذي استقر لدى النقاد، وتعطي المساحة الأكبر للرواية. * ملخص محاضرة أُلقيت في نادي مكةالمكرمة الأدبي يوم الثلاثاء 6 ربيع الثاني عام 1433ه.