في هذا المقال، سنتحدث عن سجية من سجايا الملك المؤسس، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وسمة من سمات العبقرية التي تميّز بها، رحمه الله، ألا وهي فصاحته في حديثه وبيانه. كل الذين قابلهم الملك عبدالعزيز وحادثهم خرجوا من عنده وهم مبهورون بشخصيته، فالغربيون منهم كانوا يتوقعون الحديث إلى رجل بدوي من الصحراء لا يلم بشيء من حضارتهم، فتفاجأوا بعقل جبار يجيبهم عما جاءوا يسألونه فيه، وأما العرب منهم فأدهشهم بسرعة الخاطر إذا تحدث، وبقوة الحجة إذا أراد الإقناع. يقول كنث وليمز: مواهب ابن سعود الخطابية عظيمة، بل هي من عوامل احتفاظه بعرشه، يظهر مقدرة عجيبة في أحاديثه العامة والخاصة، وهو إذا تكلم تدفق كالسيل، يحب التحليل ورد الشيء إلى أصله، شديد الولع بتشريح المواضيع تشريحاً يدل على ذكاء وفطنة ولباقة، يخاطب البدوي بلهجة البدوي، والحضري بلهجة الحضري، وما استمع إليه أجنبي إلا وخرج مفتوناً بحديثه. ويقول خير الدين الزركلي: يتحدث حين يخطب، منطلقاً على سجيته، غير متأنق ولا متكلف، إلا أنه إذا كان الأمر جللاً، كمواقفه في اجتماعات شيوخ نجد، وقد استمر بعضها ساعتين أو أكثر، فكان هناك الخطيب حقّاً، المتجهم المزمجر، لا يتلكأ ولا يتلعثم ولا يتمتم ولا يجمجم، انطلاق في فسيح من القول، شواهد حية من أحداث عرفها السامعون أو أدركوا من عرفها، وحجج وبراهين، هناك كان يتكلم «الإمام» وليس فيمن حوله من يدعوه بأكثر من عبدالعزيز، وقد يتجمل بعضهم فيقول: يا طويل العمر، إصغاءً إلى كل حرف ينطق به، لا هتاف ولا تصفيق، ولا صياح ولا زعيق. ويقول أيضاً: لقيت أمريكيّاً يتهيأ للقيام بعمل رسمي في البلاد السعودية، ورأيت أمامه بضعة كتب أشار إليها، وقال لي: كل هذه الكتب عن الملك «ابن سعود» سأقرأها قبل أن أذهب إليه، ومضى بعد حين إلى الرياض. وتعددت لقاءاته بالملك، ثم عاد فمر بالقاهرة – وكنت يومئذ فيها- فسألته عن الملك والكتب، فقال: ما قرأته شيء، وابن سعود شيء آخر، إنه أعمق من كل ما وصف به. ويقول وزير الخارجية السوري شكري القوتلي -السابق- بعد أن قابل الملك عبدالعزيز: أعجب ما رأيت في الملك عبدالعزيز أنني لم أكد أبدأ بالحديث معه حتى استوقفني وأجاب على ما قلت وعلى ما كنت مزمعاً أن أقول. وعاد القوتلي من أول زيارة قابل فيها الملك عبدالعزيز، فكان مما وصف به «ذاكرة» الملك وحضور ذهنه، أنه يعد وجهات النظر في الموضوع وهو يتكلم، فيقول مثلاً: أمامنا طريقتان أو ثلاث بل أربع.. قال القوتلي: واسترسل مرة فقال: ست بل سبع بل ثماني.. وأوردها جميعاً واحدة تلو الأخرى.. يعدها على أصابعه، وسر القوة في حجة الملك عبدالعزيز أن عقله يسبق لسانه، وأنه ينسى العاطفة أمام المنطق ولا يقول إلا ما يعتقد. ويقول نجيب الريحاني: إن الملك عبدالعزيز كان كثيراً ما يقف في حديث مهم لينظر في أمر ظاهره طفيف، ثم يدخل عليه أحد الخدم أو الكتاب فيقطع عليه الحديث ثانيةً في الأمر الثاني، ثم يعود – وهذا ما كان يدهشني جدّاً- إلى الكلمة الأخيرة من الحديث الأول دون أن يسأل، كما هي العادة في مثل هذه الحال عند أكثر الناس: ماذا كنت أقول؟، فهو شديد الحافظة ومتيقظ دائماً. يقول الأستاذ العقاد: ربما يكون الإنسان قوي النفس والقلب ولكنه لا يكون قوي المنطق والأداء، وقد يكون العكس ولكن عاهل الجزيرة جمع القوى كلها في نفسه، فهو جهير الصوت، خطيب يسعه أن يؤثر في جنوده ورجاله، قوي المنطق. ويقول أيضاً: الملك عبدالعزيز متحدث طلق الحديث، يرسل أحاديثه على السجية بغير كلفة، ويعرب عن رأيه الصريح بغير مداراة، وتدور أحاديث جلالته على الذكريات والمواعظ الدينية والتعقيب على الحوادث المهمة والمسائل العلمية، وقد يستشهد بالآيات القرآنية على مواضعها ويروي الأحاديث النبوية في مناسباتها، وقد يروي الأبيات الشعرية ويسوق العبر من النوادر والأمثال. ويقول: كان الملك عبدالعزيز لا يغفل الفكاهة في بعض أحاديثه الخاصة وهذه آية من آيات العظمة الإنسانية كما يراها العقاد، فالعظيم الذي لا يطرب للفكاهة ليس بعظيم. هذه سمة واحدة من سمات كثيرة كان الملك عبدالعزيز يتمتع بها في قوة الملك والإدارة، رحمه الله رحمةً واسعةً وأسكنه فسيح جناته.