بمجرد العزم الصادق على الذهاب لتأدية شعيرة الحج هذه الرحلة الفريدة من نوعها عبر الأزمان الماضية والحالية ومهما كانت الصعاب، فإنها كانت تذلل بكل ما يملك الإنسان من عزيمة صادقة لتحقيق الهدف الأمثل والأسمى في الحياة الدنيا. نعم.. إنها رحلة تتجه فيها أنظار مسلمي العالم إلى مهبط الوحي، وهي في بداياتها الأولى رحلة شاقة ومتعبة وتجربة دينية عظيمة لها طابعان، شخصي من خلال فوائد نفسية وصحية واجتماعية وقيام المسلم بأداء ركن من أركان دينه، وطابع ديني من مقاصد جمة وغفران للذنب لمن حجه كان مبروراً وسعيه كان مشكوراً. هي رحلة الانكسار والتواضع لله تعالى وترك المظاهر والترف.. هي رحلة الأفئدة التي تتوق إلى القبول وتحقيق أغلى الأمنيات وهي التوبة والمغفرة، فعن جابر رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: «الحجاج والعمار وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم». في الأراضي المقدسة سترى أول بيت وضع للناس «الكعبة المشرفة» هذا المكان المهيب الذي عبّرت عنه فينيشيا بورتر، القائمة على قسم الفن الإسلامي والشرق أوسطي المعاصر في المتحف البريطاني، بعد دهشتها إزاء التشابه الكبير بين ما يرويه بعض الحجاج القدماء، مثل الرحالة ابن بطوطة في القرن الرابع عشر، وابن جبير في القرن الخامس عشر، وما يرويه الحجاج اليوم، مضيفة أن «بالإمكان استشفاف نفس النوع من الرهبة عند وقوف هؤلاء الحجاج أمام الكعبة. ربما تغيرت أساليب السفر، لكن أسبابه وردود الفعل عليه لم تتغير حتى اليوم». عند الكعبة المشرفة كأنك تسمع نداء إبراهيم عليه السلام من حولك عندما قال له ربه بعد أن أتم بناءها: «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ». وسوف تمارس شعائرك بلا رفث ولا فسوق ولا جدال. فالحج عبادة عظيمة ينبغي احترامها وصيانتها عما لا ينبغي وأن يتجنب المسلم كل ما يخل بحجته وأن تكون سليمة خالية من الأمور المحرمة والمعاصي. لقد اكتسبت رحلة الحج قديماً حيث عبق التاريخ الذي ينعشه ركن الإسلام الخامس، حقائق ماثلة يرويها من عاش خلال السنين الماضية من الأجداد الذين واجهوا شظف العيش وقسوة الحياة. كانت رحلتهم إلى الحج ممتعة في نفوسهم محفوفة بالمخاطر والصعاب في قلوبهم وما يتكبدون من مشقة فكانوا يقطعون البوادي والصحاري والقفار ضاربين أكباد الإبل أياماً وليالي وربما شهوراً كاملة ليصلوا إلى هدفهم المنشود.. مكةالمكرمة لأداء فريضة الحج والعودة إلى ديارهم فرحين مستبشرين بالذنب المغفور والتجارة التي لن تبور. لم يمنعهم وعورة الطريق أو الغدر من قبل قطاع الطرق أو السطو من اللصوص أو المتاهة والموت عطشاً في الصحراء القاحلة، يتقون أشعة الشمس ويهتدون بمواقع النجوم.. إنها رحلة ذات أجواء مظلمة وصعبة يتم فيها فقدان الأمن وتجرع القهر. واليوم أصبحت الأمور ميسرة لكل حاج وحاجة في أي مكان من خارطة العالم، وتفوَّق النقل الجوي من الطائرات على من سبقه قديماً واُختُصرت المسافات وذُللت الصعاب «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون». وانتقلت الذكريات المريرة السابقة إلى ذكريات حاضرة على أرض الواقع المهيب ب «سيلفي جماعي أو فردي» في جميع تنقلاتهم. إن المملكة العربية السعودية لتشعر بالفخر والاعتزاز بتوافد ضيوف الرحمن سنويّاً من حجاج ومعتمرين وزوار وتمارس دوراً أقرب للعلاقات العامة تجاههم وتوفِّر سبل الراحة لهم لأن الكل يريد خدمتهم وتقديم صورة مشرفة لواقع المملكة قبلة المسلمين ورجالها من أمن وكشافة وغيرهم من المخلصين؛ فخدمة الحاج والمعتمر شرف لا يضاهيه شرف آخر. لقد جندت المملكة كامل طاقاتها وإمكاناتها البشرية والمادية وخبراتها وجميع تجاربها الماضية لإدارة هذه الحشود الغفيرة والمحافظة على سلامتهم من أجل موسم آمن وخالٍ من الأمراض حتى عودتهم إلى بلادهم سالمين غانمين. فكانت المشاريع الجبارة وتسخير كثير من الخدمات، ففي المشاعر المقدسة هناك المشاريع الكبرى مثل جسر الجمرات وقطار المشاعر والتوسعة الضخمة في الحرم المكي الشريف، ولا يخفى أن أمن الحج تضعه المملكة نصب أعينها وتعتبره خطّاً أحمر لا يمكن تجاوزه ولا تسمح لأي كائن أن يعكر صفوه أو المساس به. فهنيئاً لكم يا حجاج بيت الله هذه النعمة العظيمة والخاتمة المباركة، فقد قال تعالى: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ». فالطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وعرفة، ومزدلفة، ورمي الجمار، هو ما أمروا به ليتموا حجهم. الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.