كثيرة هي الأطروحات في الخطاب الديني المعاصر، فهذا يصيب كبد الحقيقة وذاك يجانبها، ولكن مع هذا وذاك مازالت الأمة بحاجة إلى خطاب ديني معاصر يحميها من تبعات أزماتها على مختلف الأصعدة؛ حيث إن غياب الخطاب الديني المناسب جعل الأمة تمر بكثير من المشكلات لا سيما بذاك الخطاب الديني الموجه إلى شباب الأمة الذين هم عدتها وآمالها. ومن خلال غياب هذا الخطاب ابتعد الشباب عن المسلك القويم، فما من نزق فكري إلا ومُنيت الأمة من شبابها وزادت رهقاً من أفعالهم بسبب ضعف هذا الخطاب، وبعده عن الله والسلوك الاجتماعي، فما من مشكلة وقع بها شباب الأمة إلا لكونهم خالي الوفاض من مقاصد الشرع الحنيف. إن الخطاب الديني المعاصر الذي يستهدف به الشباب هو خطاب ضعيف وذو أسمال بالية لا يصمد عند نوازل الزمان والمكان.. وكل هذا بسبب نأي الخطاب عن مقاصد الدين! فلا يعدو أن يكون خطاباً منبثقاً من رؤى ذاتية لا تمثل إرادة الله من دينه. كما تمحور الخطاب الديني اليوم حول أطروحات ذاتية وتجارب شخصية بعيدة كل البعد عن مقاصد الدين أمراً ونهياً. وإن شباب الأمة مع الأسف الشديد قد تلقوا مثل هذا الخطاب! ولما كانت هذه هي المدخلات فإن المخرجات حتماً ستكون على ما نرى اليوم؛ حيث ضل الشباب الطريق، وشهدنا ممارسات من قبل شبابنا طعنوا بها خاصرة الأمة وأدموا محياها. إن الخطاب الديني الحصيف هو ذلك الخطاب الذي يتأطر بأوامر الله ونواهيه، مستقياً ذلك من وحي كتاب الله والسنة الصحيحة، وإلا كان هذا الخطاب يُفسد أكثر مما يُصلح. إن الخطاب الديني الذي يرتكز حول اجتهادات بشرية سابقة أو لا حقة بعيداً عن الدين الصحيح لن يؤتي أكله، إنما الخطاب الديني المنشود هو ذلك الخطاب الذي يتوكأ على مصادر الدين الأساسية لاسيما كتاب الله.. كما يتوجب على من يتصدى للخطاب الديني أن يقترب من كتاب الله قرباً معنوياً يُفضي بصاحبه إلى معرفة أوامر ونواهي هذا الكتاب. إن معرفة النص عبر الحرف وحسب لا تكفي لمن أراد أن يقع على مراد الله من نصوصه في كتابه العزيز، بل لا بد من الغوص العميق في هذا النص أو ذاك حتى نقع على مكنون كتاب الله. كثيراً ما يضل الإنسان إذا كان لا يُحسن من التفقه إلا معرفة النص معرفة حرفية ولا يُحسن تدبر النصوص! إن المعضلة التي نعايشها اليوم هي أن من يتصدون للخطاب الديني يتعاملون مع النص حرفياً غاضين الطرف عن التدبر العميق لنصوص هذا التشريع! ما أريد قوله هو أن الأمة لن تُنتج شباباً سليم المسلك إلا إذا تلقوا خطاباً دينياً صادراً من نص مُتدبر.. إذاً الخطاب الديني المعاصر الذي يُقصد به شباب الأمة قد أخفق من وجهة نظري المتواضعة لسببين أولهما أن الخطاب الديني لم ينزل على ساحة المصادر الرئيسة لهذا الدين، وثانيهما أنهم حملوا نصوصاً دون تدبر مضامينها، كل هذه الأسباب مجتمعة ومنفردة أدت إلى ضعف الخطاب الديني المعاصر.. وهناك شيء آخر أرجو أن تفهموه أن النص الشرعي قد يرد ويُردف معه نصاً آخر في ذات السياق، ومن ثم يجب الربط بين النصين حتى نأخذ الحكم الشرعي عبر فهم مضامين هذين النصين أو أكثر. إذاً معرفة نص شرعي عند الشخص وغياب بقية النصوص هي معضلة فقهية لا تدلف بمن يريد معرفة فحوى النصوص. إذاً معرفة النص دون جمعه ومطابقته مع النصوص الأخرى هو تقصير في الاستدلال في معرفة الأحكام الشرعية. وكثيراً ما نشهد ذلك في كتاب الله والسنة المطهرة. وهناك شيء آخر وهو أن تؤطر نصوص السنة بنصوص القرآن الكريم، صحيح أن السنة أحياناً تُفصل ما أجمل وتُقيد ما أُطلق ولكن لا ينبغي أن نُغفل الإطار العام للنص القرآني في نظرية الاستدلال وسنّ الأحكام. إذا تولد لدينا مثل هذا الفهم في الفقه فإني على يقين تام أنه لن تزل أقدامنا يوماً ما في معرفة دين الله. لقد ضلت الأمة في كثير من شؤونها لغياب التفقه الناضج في الاستدلال على الأحكام الشرعية. إن الخطاب الديني الذي أُلوح به هو ذلك الخطاب الذي يخرج عبر بوابة مصادر الدين الرئيسة ولا يرتدي عباءة اجتهادات بشرية تخطئ وتصيب. وبالمناسبة إن الخطاب الديني الناضج الذي نستهدف به شبابنا هو ذلك الخطاب الذي يجعل الشاب في فسحة من أمره، موسعاً له في حياته يعيش الحياة الدنيا بملذاتها المباحة وله رجاء عند الله في الدار الآخرة.. ولكننا اليوم نجتر خطاباً دينياً نراه يُضيق على الشاب حياته ويزهده في دنياه ويصعد عنده ما في الآخرة من مباهج وملذات.. إننا إذا جعلنا الشاب يرحل مُتع الدنيا إلى الآخرة فإن هذا الشاب أو ذاك يستعجل ما في الدار الآخرة لحرمانه من ملذات الدنيا! وهذا ما نشهده بين صفوف شبابنا الذين أزهقوا أنفسهم وأنفس غيرهم عبر هذا المفهوم! إن الشاب السوي هو الذي تُقدم له الحياة ليعيشها مع عدم نسيانه ما في الدار الآخرة يقول الله تعالى عن مثل هذا التوجه (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ )هذه هي الحياة السوية. وقد ورد في الأثر «الدنيا مطية الآخرة» فمن صلحت دنياه صلحت آخرته.