تطفح المكتبات الخاصة والعامة في أقطار العالم الإسلاميّ بمصنفات كتب الفقه فكثيرة هذه المصنفات لاسيما المصنفات الفقهية التي صُنّفت في المذاهب الأربعة. إن هذه المصنفات كان أصحابها يهدفون من وراء تصنيفها خدمة التشريع الإسلامي، ولا يمكن لكائن من كان أن يشكك في نيات هؤلاء المصنفين.. ولكن هذه المصنفات الفقهية. أحياناً يكون بين ثناياها أمور قد تخالف صحيح هذا التشريع وتناقض مضامينه أحياناً أخرى.. والأمة تتناقل هذه الأمور من جيل إلى جيل دون تمحيص، وقبل أن أتوجه باللائمة على علماء الأمة في تناقل هذه الأمور التي قد تُبعد النجعة عن مقاصد التشريع؛ فإنه قبل ذلك يجدر بي أن أوضح الأسباب التي أدت إلى مثل هذه الأخطاء.. ولعل من تلك الأسباب أن أصحاب تلك المصنفات دُونوها يوم ابتعدت الأمة عن المصادر الرئيسة للتشريع الإسلامي، ومن أهمها وأسماها كتاب الله وصحيح السنة الشريفة!! إن ابتعاد الأمة آنذاك عن هذه المصادر لا أقول ابتعاداً مادياً فهذا متأتٍ ولكن أقصد الابتعاد المعنوي، وهذا هو الذي يُعول عليه في القرب من هذه المصادر. إن الإمة الإسلامية بالأمس وباليوم وبالمستقبل لن يكون لديها فقه مستنير إلا إذا قربت من هذه المصادر فتتمكن من إيجاد فقه يحمي جناب هذا التشريع من أعدائه.. ولعلي لا أكون مبالغاً إن قلت لكم إن الأمة لا تحتاج إلى هذا الكم من المصنفات الفقهية وبأيدينا كتاب الله وصحيح السنة. إن مثل هذه المصنفات تعتبر مذكرات تفسيرية للمصادر الأساسية. إن تلك المصنفات الفقهية التي أُردفت مع النص الشرعي في مصادره الرئيسة للتشريع الإسلامي تُبعدنا أحياناً عن النص الأصيل لاسيما النص القرآني.. إن تلك المصنفات لا أجد لها قيمة مضافة تُضاف إلى تلك النصوص، بل هي تبعدنا عن النص الأصيل، وإن النص الأصيل قد كمُل كماً وكيفاً. وأرجو هنا أن لا يُساء فهم ما أريده. فلست هنا من الذين ينادون بمصادرة هذه المؤلفات، وإنما مقصدي أن لا تصرفنا تلك المؤلفات وتأتي على وقتنا وتُبعدنا عن النص الأصيل.. إن الله تعالى في وحيه الطاهر يبين لنا جلياً أنه ما من شاردة ولا واردة إلا وحكمها في القرآن، أو على كل حال جذرها في القرآن. أليس الله تعالى يقول (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) إلى غير ذلك من تلك النصوص في هذا الصدد. إذاً فلنا في النص القرآني والسنة الشريفة بُغية عما سواهما. ولكن يجب أن أبين شيئاً مهماً وهو أن الوقوع على فهم النص القرآني لا بد لنا من أدوات وهي: المعرفة، اللغة، والتدبر العميق، وربط النصوص مع بعضها. وإن الذي سوف أتوقف عنده حول هذه الوسائل هو التدبر.. فالتدبر العميق يُفضي بنا إلى معرفة مراد الله من النص الشرعي. أليس الله تعالى يقول: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ..) وآية أخرى (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاته..) إذاً فدراسة النص الأصيل كفيلة بأن تجعلنا نفهم مضامينه. يقول الله تعالى: (وَمَاآتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا..) إن تقييد المطلق وتفصيل المجمل يجب أن لا يقوم على عاتق مثل هذه المصنفات، بل إن المطلق في كتاب الله والسنة الشريفة يقيده نص آخر من هذا المصدر أو ذاك، وإن تفصيل المجمل هو الآخر يبين عبر نص آخر من هذا المصدر أو ذاك. إن الحكمة من إطلاق الحكم الشرعي أو إجماله أحياناً هو لأنه يحمل في طياته حكماً آخر لم يكن له وجود الآن؛ لأن وجود الحكم المطلق والحكم المجمل حتى يكون النص حمّال أوجه في مسايرات الحوادث والأزمات، لذا فإن مجيء الحكم الشرعي مطلقاً وأحياناً مجملاً ليس عبثاً بل لحكمة بينتها آنفاً، فالاستبسال في فهم النص الشرعي وعصف الذهن من أجله لتتوضح مضامينه أجدر من اللجوء إلى تراكم علمي غير موثوق به.. أعتقد أن فكرتي هذه يشوبها بعض الغموض، دعوني أُوضح ذلك بقولي إن الوقوف طويلاً عند النص الشرعي لنأخذ منه حكماً لنازلة آنية تظهر اليوم وتختفي في الغد أحسن من أن نتلمس الحكم الشرعي عبر اجتهاد مسطح لا يوثق به ومن ثم تتناقل الأمة هذا الاجتهاد من زمن إلى زمن وهو غير ناضج! هنا تكمن خطورة هذه المصنفات.. إذاً يجب أن لا تقف الأمة رهينة لمثل هذه الاجتهادات. إن تأسيس أحكام فقهية لم تأتِ عبر بوابة النصوص الشرعية الرئيسة ربما لا يوافقها الصواب وبين أيدينا كتاب الله الذي نصوصه قطعية الثبوت.. فإن الذي يعصف بذهنه هو في راحة من صحة هذا النص لأنه من الله تعالى وهو قطعيّ الثبوت. إذاً إن اتكاء الأمة على تلك المصنفات والإيغال فيها لها تبعات واضحة في التجني على الحكم الشرعي الأصيل. وبالمناسبة ما نفد أعداء هذا الدين ومنتقديه إليه إلا من خلال هذه المصنفات. وما وقعت الأمة في أزمات فكرية إلا عبر هنات لهذه المصنفات. وإنما الفيصل في تقديم هذا الدين حجة دامغة وفهم عميق لن يتأتى إلا عبر النص الشرعي الأصيل، أليس الله تعالى يقول عنه (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).