جلس أستاذ الكيمياء في مهابة أمام طاولة المختبر، تحلق حوله مجموعة من الطلبة غير المتحمسين كثيراً للحضور الذين لم يمنعهم من الهرب وتفويت الدرس إلا الخوف من عواقب الغياب وأثره على درجاتهم. أمسك الأستاذ بأنبوب اختبار طويل يحتوي على سائل أزرق داكن وضعه على الحامل وصب فوقه بضع قطرات من سائل آخر شبه شفاف، ثم التفت إلى طلابه وسألهم هل تلاحظون أي تغيير في الأنبوب؟ لم يمهلهم ليجيبوا بل أضاف في حماس «لم يحدث شيء حتى الآن، لكن ذلك لا يعني أنه لا يوجد تفاعل هنا، بالعكس لقد بدأ تفاعل طويل ومعقد داخل الأنبوب لكنه سيستغرق وقتاً طويلاً جداً، وربما لشدة طوله لن نستطيع ملاحظة التفاعل عندما يتم». هم أحد الطلاب بالتعليق لكن الأستاذ المتحمس قاطعه مرة أخرى، «أعرف ما ستقول يا فتى، لابد أنك تتساءل وما جدوى التجربة إذن؟ سأخبرك الآن وفوراً، فقط كن صبوراً بعض الشيء». انحنى المعلم في رشاقة لا تتناسب مع سنه وفتح دولاباً صغيراً تحت الطاولة واستخرج موقد معمل صغيراً مغبراً قليلاً، مسحه باهتمام ووضعه تحت الأنبوب المعلق على الحامل وأشعل الموقد، اندلعت شعلة خجولة من اللهب وإن ظلت على مسافة سنتيميترات من قاع الأنبوب. ترك الأستاذ الأنبوب والموقد والتفت إلى لوح السبورة المعلقة على الجدار وشرع يخط معادلات التفاعل، كثيراً من الرموز والحروف والأرقام التي بدأت تملأ السبورة، ظهر التململ من جديد على وجوه الطلاب، وعادت أفكار الهروب تراود خيالهم من جديد. لكن وقبل أن يسترسل بهم الخيال التفت لهم الأستاذ وبدأ في مخاطبتهم، «أعرف أن الأمر يبدو معقداً بعض الشيء وباعثاً على الملل، لكن تعالوا لنتأمل قليلاً فيما يجري داخل هذا الأنبوب، هناك جزيئات بدأت في التفاعل، إنها تمر الآن بمراحل وأطوار متعددة قبل أن تصل إلى المرحلة النهائية، كل مرحلة هنا تسمى المرحلة الوسيطة، وكل ناتج لها يسمى العامل الوسيط». ورسم عدة دوائر بالقلم حول عدد من الرموز المتناثرة فوق السبورة قبل أن يتابع. «في وسط التفاعل كذلك هناك مراحل تمر بسرعة وسلاسة، وهناك مراحل تمر ببطء وتستهلك كثيراً من الوقت والطاقة، إنها ما نسميه الخطوة المحددة للتفاعل، وهي رغم تثبيطها للتفاعل هي من تمنحه صفته المميزة عن باقي التفاعلات. هناك أيضاً العوامل المحفزة التي تساعد الجزيئات على إنجاز التفاعل واجتياز العقبات المثبطة». وأشار إلى شعلة اللهب المنبعثة تحت الأنبوب. والآن ورفع يديه في الهواء وهتف بصوت عال، «ركزوا معي قليلاً..ألا يوحي لكم هذا التفاعل بشيء؟ هل تستطيعون ربطه بشيء مشابه؟» صمتوا في ترقب ونظرات الفضول تلمع في عيونهم، في حين تابع هو «إنه ملخص بسيط لقصة حياة البشرية، لقصة حياتكم وحياتي وحياة أي إنسان على وجه الأرض، تخيلوا حياتكم كهذا الجزيء. تخوضون معترك الأيام وتجاربها، تمرون بمراحل كثيرة بعضها سلس ومبهج وبعضها صعب وحزين، ستواجهكم عقبات ومثبطات تستهلك من جهدكم وعمركم سنوات، لكن ستجدون من يقف بجانبكم ويمنحكم الطاقة والدعم، وستكون تلك العقبات هي الخبرات المميزة في حياتكم التي تمنحكم الحكمة والقدرة، ستتلاشى كل المراحل الوسيطة التي مررتم بها من تعب وجهل وضيق وقلة خبرة ولن يبقى إلا المنتج النهائي بعد أن يكون قد نضج وتبلور. استدار الأستاذ وشرع يمسح الرموز الكثيرة التي في وسط المعادلة ويترك طرفيها فقط وعاد يلتفت إليهم، كان الطلاب يتابعونه بأنفاس مبهورة ويوزعون انبهارهم بين كلماته الساحرة عن الحياة وبين أنبوب الاختبار الذي بدأ لونه في التغير وتشكلت على أطرافه بلورات كريستالية فائقة الجمال.