كما هو معلوم تشكل الفلسفة ثلاثة أقسام. ثلث لقضايا الوجود، وثلث لنظرية المعرفة وثلث للأخلاق. من علامات الفلسفة الحديثة أن اهتمامها كان منصباً بقدر كبير على نظرية المعرفة، بخلاف الفلسفة اليونانية التي كان اهتمامها بنظرية الوجود أكبر، ويندر أن تجد كلاماً لفيلسوف يوناني يتحدث فيه عن نظرية المعرفة بالصورة التي تميزت فيها فيما بعد. ولو أردنا أن نختصر نظرية المعرفة عند الفلاسفة في كليمات لقلنا: تُعنى نظرية المعرفة بمحاولة الإجابة عن الأسئلة التالية : هل يمكن أن نعرف؟ ماذا يمكن أن نعرف؟ ما هي أدواتنا للوصول للمعرفة؟ هل نعتمد على العقل أم الحس أم الحدس؟ ما مدى مصداقية هذه الأدوات؟ ما هي وجهة نظر من يسمّون بالفلاسفة المثاليين (العقلانيين) حول نظرية المعرفة؟ ما هي وجهة نظر التجريبيين حول نفس القضية؟ ما تفاصيل السجال بين المدرستين وإلى أي شيء انتهى؟ ما هو الموقف الطبيعي للإنسان فيما يتعلق بنظرية المعرفة؟ برغم دعوانا أن الفلسفة الإغريقية كانت مشغولة بالوجود أكثر من انشغالها بنظرية المعرفة، إلا أن بعث السؤال الكبير جاء مع السفسطائيين في فترة ما قبل سقراط، ولعلّي لا أجانب الصواب عندما أقول إن السفسطة نشأت بسبب مهنة المحاماة. فقد شهدت أثينا نهضة على كافة الأصعدة وازدهرت التجارة والاقتصاد، فأدى ذلك لظهور النزاعات المالية مما أفضى إلى الترافع إلى المحاكم، فارتفعت أسهم مهنة المحاماة واشتهر بين الناس الحرص على فن الخطابة وإقناع المتلقي واستعراض القوة البلاغية أمام الجماهير التي تحضر المحاكمات. ثم أصبحت الخطابة تترقّى وتصبح مهنة تتطلب احترافاً وتدرّجاً في منازلها. وأصبح لها أساتذة يفوق بعضهم بعضاً في قوّة الإقناع. كما أن ما يتقاضونه من أجر من أبناء الأغنياء زاد من حرص الناس على تعلّم هذه الحرفة حتى كثر المحامون والخطباء والفصحاء. وكل واحد من هؤلاء يسعى لإثبات دعواه بالبحث عن الأدلة المؤيدة له أو بالبحث عما يقدح في دعوى الخصوم وأدلتهم. في هذه الأجواء وهذا المدى، ظهر السؤال عن الحقيقة و تكرر على الناس الشعور بضرورة تحديد ماهية الحق والباطل. فكان جواب السفسطائيين بأنه ليس هناك حق ولا باطل. فالحق ما يتوافق مع وجهة نظري ويخالف وجهة نظر خصومي. هكذا أصبحت الحقيقة رهن شعور الإنسان. ثم فيما بعد أصبح هذا الاعتقاد بعدم جدوى الحقيقة: عقيدة يروّج لها في أثينا. عندما نتأمل في عمق نظرية المعرفة السفسطائية، نجد أنها كارثة حقيقية، لا تبقي للناس قيمة أخلاقية واحدة. لكن إن كان لنا أن نحاول جاهدين أن نبحث عن مزية لنتاج السفسطائيين، فلا شك أنها تنحصر في استفزازهم لعقول عباقرة الفكر الذين بذلوا الجهود العظيمة في تفتيت هذه النظرية، وإرساء سفينة المعرفة على قواعد ثابتة وصلبة، تؤمن بعقل الإنسان وقدرته على معرفة تكون للجميع.