فُتِح باب المصعد، فجفلتُ من وجه رجل، كان عابساً بشكل مزعج، تقف وراءه سيدة متوسطة العمر بوجه حزين، نظر إليَّ الرجل بعصبية، وكأنني اقتحمت عرينه، فلم أتمكن من إلقاء السلام، لأن وجهه لا يبشر بالسلام. دخلت وأدرت ظهري على الفور، وما إن أُغلق باب المصعد حتى سمعته يشتمها، تقدمت قليلاً لأبتعد عنهما حتى التصقت بالباب، وحين دُقَّ جرس المصعد، وقبل أن يُفتح الباب بثوانٍ سمعت صوت «ضربة» على جدار المصعد خلفي، وصرخة مكتومة، حدثت في آن واحد، تنحيت إلى الزاوية اليمنى سريعاً، فخرج الرجل بعد أن ألقى عليها لعناتٍ من تحت أنيابه، وأُغلِق بابُ المصعد وراءه، ثم ساد جو من التوتر والهدوء، شعرت بتأنيب الضمير، فلو كنت أقف بمواجهتهما لربما لم تُتح له الفرصة للاعتداء عليها، وجلست أصارع نفسي: هل ألتفت لأواسيها؟ ولكن أخشى إن فعلت، أن تأتي ردة الفعل عكسية، فأنا لا أضمن كيف يمكن أن تستقبلها المرأة. ولكن أين ذهبت فينا الرحمة، لتستقبلها كما شاءت، ولأقم أنا بواجبي على الأقل. حين سمعت صوت بكائها، غمرني مزيد من الوخز في ضميري، الذي كان يلحُّ عليَّ أن أفعل شيئاً، ظللت مكاني ملتصقة في لوحة الأرقام، أفكر كيف حدث كل ذلك في ثوانٍ، ثم إن كان يفعل مثل هذا الأمر في مكان عام «مصعد المستشفى»، فماذا تراه يفعل في المنزل؟! رفعت رأسي أبحث عن كاميرات في سقف المصعد فلم أجد، فأخذتُ نظرة خاطفة نحوها، فوجدتها تكتم فمها بيدها، وتهتز من شدة البكاء، فأدرت وجهي إلى لوحة الأرقام ثانية، وتركتها «تذرف وجعها»، وأخذت أفكر في الشيء الذي من الممكن أن يجعلها تصبر على كائن قبيح مثل ذاك. حين التفت ثانية كانت تترنح، وكأنها على وشك أن تفقد وعيها فتأهبت لتلقفها، ولكنها ارتطمت بجدار المصعد، وتركت نفسها تنزلق للأسفل، مددت يدي لأرفعها فامتنعت، وحين رُنَّ جرس المصعد معلناً الوصول إلى الطابق الأرضي، وقفت سريعاً، ومسحت دموعها، وكتمت بكاءها. فُتِحَ باب المصعد، ودخل مجموعة من الناس، فوقفت أمامها لا شعورياً أحجبها عن أعين الداخلين، لأنني لو كنت أبكي لتمنيت أن أجد مَنْ يحجب عني أعين المارة، فلا أحد يحب أن يراه الناس في لحظة ضعف. حين خرجت من المصعد، لم أرَ إلى أي اتجاه ذهبت، وفي لحظة شعرت بيدٍ، تسحبني من مرفقي، كانت تنظر مترددة، فاقتربت مني، وبصوت مُتهدج همست: «شكراً لكِ.. وأعتذر عن مضايقتك». ومن شدة الارتباك لم أعرف كيف أخفِّف من وطأة الموقف، فرددت عليها: «لا أبداً الساعة المباركة». ثم صحَّحت خطئي: «قصدي ولا يهمك ما صار شيء». فابتسمت عيونها المبتلة للحظة، فزاد توتري، كنت أشعر بأن حكاية مؤلمة على وشك أن تلتقطني، وربما تُعشعش في داخلي لفترةٍ، ولا تتركني قبل أن تُلقي ببذورٍ حزينةٍ، تكفيها دمعة واحدة لتنبت بها غابة كثيفة متشابكة من الهموم والأوجاع من السهل أن تسكُنني مع أنني أتمنى ألا تكون كذلك، ولكن غزارة دموعها، وطريقة تأثرها، كانتا تشيان بأن قلبها يتفطر عن معاناة لا يحتمله صدرها. ربتُّ على يدها وطمأنتها بأن كل شيء سيكون على ما يرام، ولا ضير في أن نبكي قليلاً فنحن في النهاية بشر، نتعرض إلى مواقف، وضغوطٍ نفسية مفاجئة، تُباغتنا، وتكتم أنفاسنا إلى أن تُبكينا أحياناً. وأخذت أهوِّن عليها، وأشرح لها كيف يباغتنا البكاء في العمل، وكيف كنا نشعر بتحسن بعد «هطوله»، كانت تستمع وتهز رأسها، وحين أوشكت على المغادرة، سألتها إن كانت في حاجة إلى المساعدة قبل أن أذهب، ترددت للحظة، ثم مدَّت يدها، وطلبت أن أبقى قليلاً إلى جوارها، جلسنا على مقاعد الانتظار، وطلبت أن أمنحها بعض الوقت لتتمالك نفسها، كانت كلما جفَّفت دموعها، انهمر مزيد منها، فأشحت عنها إلى أن بدت الدموع تجفُّ تدريجياً، وظل احمرار أرنبة أنفها يشي بكثير من الألم، قالت: إنها تريد أن تأخذ رأيي، فلربما أحكم بالعدل، لأن حكم الغرباء أعدل من حكم الأقرباء، ولا أدري لماذا شعرت بالخوف حين بدأت تتكلم، شيءٌ ما ألحَّ عليَّ أن أدسَّ في يدها رقم الحماية الموحد (1919)، فهمست لها: «لا تترددي بالاتصال». ودون أن تسأل، هزَّت رأسها، وابتسمت، وكأن بيننا تفاهماً مسبقاً، وحين فتحت فمها لتُكمل، شهقنا معاً، حيث فُجعنا بمنظر الرجل المخيف، يلتهم الأرض بخطوات كبيرة حتى أصبح أمامنا، مدَّ يده بوجه عابس وسحبها، وغادر في ثانية. على قدر ما شعرت بالتعاسة، إلا أنني حين لمحتها تُخفي الرقم بحرص في أحد جيوب حقيبتها تنفَّست الصعداء، وشعرت باقتراب الفرج.