فقدت عائلة كُتَّاب صحيفة «الشرق» بالأمس القريب أخاً عزيزاً، وقريباً حبيباً، وصلتنا به، ومازالت تصلنا به، وشائج قربى، وحبال وصل وبر وود، هي في حُسن ظني أعمق، وأوثق من بعض إخوةٍ، وكثير «خؤولةٍ وعمومةٍ». رَحِم الفكر، ودمع المحابر، و«مور النفس»، وحرقة الضمير، ومعاناة التعبير، والعبور من طور إلى طور، و«ركوب الأخيلة»، وشجاعة البوح، وجرأة الطرح، وفضح الوهم، وإسقاط الصنم، وزحزحة جبال القطن القديمة المسندة، ومحبة نفع الغير: هذه بعض تلك الوشائج، التي جمعتنا بأخينا في الملة والقبلة، والهم والصنعة: محمد علي البريدي، الألمعي نسباً وفكراً وعطاءً، ولا أنسى ما ربطنا به من جوار الفكر، وتعانق الكلم على تلك الصفحات المشرقة، التي أودعها صاحبنا، غفر الله لنا وله، كما أودعناها مثله، بعضاً من نزف روحنا، وزفرات وجداننا، كلمات وأفكار وتحليلات، نأمل كلنا، أحياء وراحلين، أن تشهد لنا لا علينا، وترفعنا، وتنفعنا يوم لا ينفع مال ولا بنون. كان كاتباً ذا حس مرهف، وفكر جريء، ولقد خطَّ مساراً فكرياً مميزاً، لعل وجهته تلاقت مع غيره من الكُتَّاب أحياناً، كما تباعدت في أحيانٍ أخرى، لقد تباينت التحليلات، واختلفت الآراء والاجتهادات، وأدلى كلٌّ بدلوه، وهذه عادة أهل الفكر منذ القِدم، فكلٌّ منهم يحاول تشخيص المرض من زاويته وخبرته، فذا يجتهد ويوفق فيصيب، وذاك يجتهد، ويزل قلمه، وقد يكبو حصانه، ولكنه يعاود الكرَّة مسرعاً، ويجتهد مرة تلو أخرى، إن كلاً منهم يسعى خلف الحقيقة، أو ما يحسبه كذلك، فيدرك بعضها، وقد يغيب عنه أكثرها في ظل سراب كبير وموهم، تاه في ظلمته خلقٌ كثيرٌ قبل أن يعاينوا نبع مائه ويطعموه. إن الأدب والشيم، والنخوة وحفظ العهد، والقرابة والود، والرحمة وحُسن الظن، والرأفة بأخ لنا، تقطعت به السبل، وعون مفتقر، ومحتاج إلى مغفرة ربه، مما يدفع عائلة كُتَّاب «الشرق» إلى التألم، والحزن، و«التوجد» على فراق أخينا، ورفيق دربنا الكاتب الأديب البريدي، ولا يظنن واهم «عَجِلٌ» أننا في ذاك المقام ناسبو عصمة إلى أنفسنا، أو إلى أخينا، أو إلى أحد من الناس، كاتبهم وقارئهم ومعلقهم، فالشق «صورة رمزية لحال الأمة»، كان ولم يزل، أكبر من الرتق والراتق، ولقد أعيا كثيراً وكثيراً رتقه، ولا ملامة، ولا عتب، إن ظن أحدنا أن ما قبالته ساقُ شجرة معمرة، فعذره، وعذر نظيره، أنه لم يرَ الفيل كاملاً، ولم يرَ منه إلا ساقه الغليظة، لكن المنصف لا يجحده فضيلة البحث، ولا يبخسه ثناء الاجتهاد. اللهم اغفر لأخينا محمد البريدي الألمعي، وأعظم حسناته وتقبَّلها، واعف عن أخطائه وزلاته، ونقِّهِ من الذنوب والخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس، واغسله بالماء والثلج والبرد، وارفع درجته في عليين بحُسن ظننا وظنه فيك، وانفعه بخالص عمله وجميل بره بوالديه، وارحم غربته، وآنس وحشته، واجعل مرقده روضة من رياض الجنة، وافسح له فيه، وأكرمه ونعِّمه وآمنه حتى يلقاك ويراك، وهب له رضاك والجنة، واجمعه فيها مع أهله ومحبيه، واحفظه في أهله وولده وعقبه، وارحم ضعفنا أجمعين، واجبر كسرنا، ووفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، واختم لنا بالصالحات، وارحمنا، واغفر لنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، آمين.