(هذا عصر الحروب بامْتياز، سينقرضُ الشعراء والكتاب والعشّاق، وستتراجع الكلمات تحت سياط الأحزمة الناسفة، ولا نزالُ في بداية البدايات..). محمد البريدي. هذه إحدى تغريدات وتنبؤات فقيد الكلمة الراقية النادرة/ محمد البريدي.. طلب الكثير منا الكتابة عنه، فلمْ أدر من أين البداية! أنبدأ معه من الحبّ وقدْ كتبهُ كاملا ولمْ يُبْقِ لنا منه ما نكتبه؟! أم من ندرة الأسلوب وسحره الذي لمْ يُؤتهُ سواه؟ أمْ من النّقاء والصفاء والتّسامح الذي يُعتبرُ مدرسةً فيها؟ أمْ نكتبُ عن (التَّراتيل) حين تموتُ مرتِّلَةً ألْحانَ (زرياب) ذاتَ اسمٍ رمزيّ كانَ يكتب به؟ محمد البريدي، حينَ بدأ الكتابةَ في صحيفة (الوطن)، واصطدمَ فيها بما يعيقُ قلمَ أمثاله، سامح من لحظة إيقافه منها من كان سببا، وأضحكنا كثيرا بمناسبة منعه من الكتابة فيها ، وأحالَ المنعَ وأسبابه إلى جَمال.. اقترح بعضُ المهتمين بهذا القلم الفريد على رئيس تحرير(الشرق) آنذاك رائد الإعلام الأول أ. قينان الغامدي استكتابه فكان هذا، وكان قينان – كعادته – أستاذ الأقلام الرائدة .. كتاب البريدي (رسائل من جهنم) جاء علامة أسلوبية يختصّ بها، ثمّ شكَّلَ مع الأديبين / إبراهيم شحبي – علي فايع تجربةً في نفس الأسلوب، أصدرَ منها كتابه الثاني: (أسماء على ورق الورد)، وقالَ لي ذاتَ يوم: إنّ لديه 7 إصدارات ومشروع رواية، يفكِّرُ في إصدارها.. محمد علامة بارزة على تكايا (مجلس ألمع الثقافي) وعضو مؤسِّسٌ فاعل في هذا المجلس، وكمْ هو صعبٌ على مجلسنا أن يلْتئمَ دونَ محمّدِه!! يجمعُ بين علوّ الحسّ والوعي والظَّرف وبين التواضعِ الفطريّ غير المصطنع.. تراه فترى أرضكَ تمشي أمامك وتضحكُ لك.. تسمعه فتسمعُ الوطنَ يعلو.. له من المصطلحات اللغوية التراثية – حين يكتب بها – نكهة تغوصُ بك في أعماق الأرض والتاريخ والجمال.. محمد البريدي أنموذجٌ فريدٌ فشل كلُّ إعلامنا ومنابرنا في استثماره، لأسباب كثيرة منها: عدم اهتمامه بالبحث عن المنابر، وحالات نفسية تعيشها بعض (لوبيات) الصحافة من قلم كقلمه.. أخيرا: حين تسألني عن شعوري تجاهَ موت مبدع بحجمه لا أجد جوابا، فحين يغيبُ مثلُهُ أشعرُ بفقدان اتِّزان الأماكن والوجوهِ والقلوب والكلمات.. خذْ منها ما شئتَ فلحظاتُ الفقدِ الأبديّ ليستْ مما يصفُهُ الكلم.. كلنا نموتُ، ولكنّ الموتَ متفاوت ومنه موتنا أحياءً بفقدِ محمد وأمثاله، وكلنا نحبّ غيرَ أنّ الحبّ أيضا متفاوت، ومنه صاحبُ تراتيله محمد حينَ قصَمَنا بتَرْتيلتِهِ الأخيرة.