من البيانات تنتج المعلومة، والمعلومات تنتج المعرفة، والمعرفة هي الإنسان! رحلة الحواسيب بدأت من معالجة البيانات، فحاسوب بحجم ثلاث قاعات دراسية في الخمسينيات، يعادل اليوم برنامج الآلة الحاسبة في جهاز الآيفون! فقط برنامج الحاسبة! السعة التخزينية للحاسوب العسكري الجبار Univac في مطلع الخمسينيات الميلادية ألف كلمة، أما السعة التخزينية للآيفون فزهاء 4 مليارات كلمة، أي أن الآيفون يعادل 4 ملايين حاسوب من مقاس Univac! وهذا يتطلب غرفة بمساحة جزر هاواي كلها كي تستضيف هذا العدد المهول من حواسيب Univac مجهزة بوسائل التكييف والإضاءة والحماية لنحصل على قدرة تخزينية تقارب هاتف آيفون يحمله طفل في العاشرة من عمره في يده الصغيرة، أما الفرق بين التكلفتين فحسابه عليك. انفجار هائل للتقنية، إلى الدرجة التي تهدد فيها مستقبل كثير من أبنائها، فعلى المبرمجين ومهندسي الشبكات ومديري الأنظمة أن يتأهبوا. مثلاً لن يجد كثير منهم وظائف مناسبة! فكل يوم تصبح التقنية أصغر، وأكثر استقراراً، وصناديق الخودام السوداء الكبيرة التي كانت تثبتها الرافعات في أماكنها قبل أن يبدأ جيش من المهندسين والمبرمجين في ربطها، تشبيكها وتعريفها وتركيب برامجها، أصبحت بحجم كتاب من القطع المتوسط يأتيك كاملاً من بلاد الصين وتايوان، وبزرين فقط، تشغيل، إطفاء! اليوم، تنُشئ مؤسسة كاملة بزهاء عشرة آلاف مستخدم، وكل ما تحتاجه خط إنترنت لكل مستخدم، وستتولى Google Apps إنشاء أنظمة المؤسسة المالية والإدارية وخدمات الملفات والبريد والأرشفة كلها في ساعة أو ساعتين! اليوم، في كل ركن وزاوية، كمبيوتر جبار صغير، ملتصق بك، يرصدك، يصورك، يسجل رسائلك، حديثك، مكانك، هوايتك، ولربما ينشرها على الملأ وأنت غافل! برنامج تويتر في جوالك يستطيع فعل كل ذلك بالمناسبة. والشبكة التي ربطت هذه الأجهزة، جعلتها تتحدث مع بعضها، تتحدث عنك من وراء ظهرك، تتآمر عليك وتتخذ قراراً فورياً، وتطبقه، وأنت لم تتجاوز بعد الإشارة البرتقالية! هكذا يتعرض إنسان هذا العصر لأقسى هجمة عرفها في تاريخه على وجه الأرض! هجوم المعلومات. احتلته تماماً، انتهكت خصوصيته، غيرت ثقافته، وتحكمت فيه. إذا كنت من أصحاب هذا العصر، فقل لي ماذا فعل بك البريد الإلكتروني؟ موقع الأخبار اليومي؟ رسائل تويتر؟ إشعارات واتساب، مقاطع يوتيوب؟ تنبيهات فيسبوك؟ ثم قل لي من أنت؟ ما اسمك؟ ما عمرك؟ وما نسبة الدهون في دمك؟ ماهو معدلك التراكمي؟ ومن أين تخرجت؟ وماذا تملك؟ أنت لستَ بأكثر من «بت» و «بايت» مخزنة في أحد الأجهزة الصماء البعيدة المجهول مكانها، وحينما نحذف سجلك هذا من هذا «الكمبيوتر» أوذاك ولو بالخطأ، فإنك تصبح أمّيا، مفلساً، تختفي إنجازاتك، تنمحي كل معالمك وتموت وأنت حي! هذا في أحسن الأحوال، أما أسوأها فمن الذي يمنه إرسالك إلى وراء قضبان السجن بتهمة التزوير! ياللإنسان! كادح وكنود، مجتهد أبداً لكنه شقي بمخترعاته التي أرادها لسعادته! منذ عهد بطليموس وهويرى في فتوحات كل عصر من عصوره فردوسا جديداً. اليوم يقف الإنسان على عتبات عالم المعرفة! العالم الأكثر تحدياً وتعقيداً! لكن عليه أن ينتصر على هذا الاستعمار المعلوماتي قبل أن ينتقل إلى فردوس المعرفة. عليه أن يدرك ماذا يريد، وأن يقتنع بماذا يريد. خبر «سقوط ناقة في بئر ارتوازية» لا يتناسب مع عصر المعرفة، لأن القراء ليسوا فرقة إنقاذ، لكن المعرفة أن يقرأ كل قارئ الخبر بما يناسب اهتمامه ومعارفه. يقرؤه مالك الناقة هكذا (إهمال الراعي وراء وفاة ناقتك «وضحا» في بئر ارتوازية)، بينما يقرؤه المقاول هكذا «وفاة ناقة أبي بدر» بعد أن سقطت في ارتوازية مشروعك الجديد، ولا يظهر هذا الخبر لمسؤولي الدفاع المدني فالموضوع منته، لكن يقرؤه مسؤول البلدية «ناقة نافقة في مشروع الارتواز المتأخر! بمخطط 10». على عتبات عالم المعرفة، على الإنسان ألا يُضيّع نفسه كما فعل من قبل في عالم المعلومات! أيُّ إبداع في أن نشبِّك العالم كله، وندفق في شرايينه آلاف الأطنان من المعلومات، لتأتيك الأخبار من أولها عن ناقة سقطت في بئر ارتوازية، ومن آخرها عن نكباتها وإعصاراتها، وعن وفاة «جورج الإكوادوري» آخر سلحفاة معمّرة في فصيلته، ثم لا تستطيع أن تعرف أن ابنة جارك تحتضر! ألم أقل إن الإنسان هو المعرفة؟ و لعل في البقية حديث.. آخر!