تقول الحكمة العربية إن الإنسان مخبوء تحت لسانه. وهذا ما يتفق مع ما يذهب إليه علماء النفس، بأن الإنسان مهما طوى في نفسه من أفكار شريرة فإنها ستظهر على السطح عن طريق كلامه أو أفعاله. إن هذا ما تبادر إلى ذهني عندما كنت أقرأ مقال وزير خارجية إيران جواد ظريف، المنشور في جريدة النيويورك تايمز، الشهر الماضي. شعرت أنه يسوق للسياسة الخارجية لبلاده ويهاجم سياسة المملكة بأسلوب اتهامي يفتقر لأدوات التحليل السياسي الرصين، ولكنها في نفس الوقت تحمل شيئاً من الكوميديا السوداء. فالطُرفة أو النكتة تقوم في جزء من جوهرها حتى تكون مضحكة على التناقض، والتباين والاختلاف عما يقال وما هو واقع.. وفي مقال ظريف، أهناك ظرافة ودعابة سوداء ومتناقضة، أكبر من قوله إن أولى أولويات حكومته هي علاقات الصداقة والسلام والاستقرار في المنطقة، والتعاون الدولي خصوصاً في مكافحة الإرهاب! واكتملت قمة الكوميديا، أن من يكتب تلك الحجج هو وزير خارجية إيران الذي يعنى اسمه بالعربية، الشخص الذي يتسم بحس الدعابة والوداعة أيضاً، في تناقض آخر! كان تجني ظريف على السعودية برميها بالبربرية لإعدامها 47 شخصاً من المدانين بعمليات إرهابية في المملكة بالتخطيط والتحريض والتنفيذ، واتهامه المملكة بأنها على صلة بكثير من العمليات الإرهابية في العالم، وأن معظم الإرهابيين يحملون الجنسية السعودية، كمن يروي قصة ليلى والذئب، لكن النسخة الخاصة بصفحة السياسة. فهل ظريف يتصور أن الجمهور ببراءة وسذاجة ليلى ليقنعه، بأن إيران التي هي كجدة ليلى المزيفة في القصة ليست ذئباً متنكراً بل هي الجدة الحقيقية !! هل هو يظن بسذاجة أن أفضل سياسة للدفاع عن بلاده هي الهجوم على الأطراف الإقليمية والدولية، أو كما تقول النكتة أحياناً إن أفضل مكان للاختباء أن تكون على سطح مركز الشرطة !! لن أحاول أن أفنِّد حججه المثيرة للضحك التي ساقها في المقال. فلقد قام وزير خارجية المملكة عادل الجبير بالرد على ظريف بالحجج الدامغة في نفس الصحيفة بعد تسعة أيام. إن أكبر أزمة تعاني منها إيران منذ الثورة، هي أزمة أخلاقية. فيبدو أن السياسيين الإيرانيين الذين أنجبتهم ما يسمى بالثورة الإسلامية غير صادقين مع الرأي العام الخارجي والداخلي.. ويبدو أنهم غير صادقين حتى مع أنفسهم أيضاً.! من وجهة نظري، على المملكة بعد تصعيدات إيران المتكررة في المنطقة أن تغيّر من سياستها معها من «الاحتواء» إلى «الاستنزاف». حيث إني لا أشك للحظة بأن أيران تحمل بذور فنائها. فهي في كل سياساتها تجدف عكس مسار التاريخ.. وستنهار قواها عاجلاً أم آجلاً، تماماً كما كان الاتحاد السوفييتي الذي كان إيديولجيه مكتسحة حوالي نصف دول العالم، لكن لم يكن قادراً على تصحيح أخطائه البنيوية.. فانهار في النهاية. وأثبتت الشيوعية للتاريخ أنها لم تكن أكثر من موضة سياسية سريعة.. فشلت وتلاشت طبيعياً !! لقد اتبعت السعودية مع إيران الثورية على مدى سبع وثلاثين عاماً سياسة الاحتواء أكثر من اللازم، وراهنت على إمكانية تحول القيادة الإيرانية إلى التعقل والتعايش السلمي مع محيطها الإقليمي والدولي مع مرور الوقت. أو على التغيير من الداخل بسبب الضغط الشعبي المتزايد نتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية الداخلية بسبب العقوبات الدولية عليها. وتقييد الحريات، وضعف المشاركة السياسية والقبضة الأمنية الصارمة. لكن رغم ذلك، لم يحصل أي تقدم يذكر. فقد كانت السياسات الإيرانية العلنية والسرية تدل على أن هناك عقيدة سياسية إيرانية ثابتة مهما اختلفت الحكومات، تقوم على التوسع من جهة، وزرع العملاء لتطويق المملكة من الشمال والجنوب من جهة أخرى. إضافة للزج بعملائها من أجل زعزعة الأمن الداخلي السعودي بالتفجيرات الإرهابية والقيام بالأعمال التخريبية للخروج على النظام والأمن السلمي. لقد تصدت المملكة للتوسع الإيراني بلعب دور مطفأة الحرائق في لبنان والعراق واليمن ودول أخرى حاولت إيران الدخول إليها بشكل أو بآخر. إن كل الظروف تلح على المملكة أن تتبع استراتيجية صارمة ومربوطة بأهداف وزمن محدد، تقوم على أبعد من احتواء إيران إلى استنزاف قوتها دون مواجهة عسكرية مباشرة معها قدر الإمكان. وذلك عن طريق إشغالها بمشكلاتها الداخلية الكثيرة من أجل أن تنكفئ وتتقوقع على ذاتها. وتقوية العلاقات مع الدول المجاورة لإيران كأذريبجان وتركمانستان والأهم تركيا من أجل تطويقها. وهكذا فإنها لن تستطيع أن توجه قدراتها المحدودة لمواجهة مشكلاتها الداخلية والخارجية في آن واحد. وفي النهاية ستكون الأولوية للقضايا الداخلية عندما ترتفع قيمة تكلفة دخولها في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. ولتنفيذ هذه الاستراتيجية بنجاح تحتاج المملكة إلى ثلاثة مستويات. المستوى الأول: الاعتماد على قدراتها الذاتية والتأكد من أنها تعمل بفاعلية في تحقيق استراتيجيتها وحدها إن تطلب الأمر. والمستوى الثاني: هو الاستفادة من الدعم الأقليمي، الذي نواته مجلس التعاون الخليجي والأردن وتركيا. والمستوى الثالث هو المستوى الدولي بحشد ومؤازرة القوى العظمى وأهمها الدول الحليفة للمملكة: الولاياتالمتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا… على المملكة أن تعجل في استنزاف إيران بشتى الوسائل، ولا تجعلها تفرض طريقة لعبها في المنطقة كما تحب هي بل كما نحب نحن. وهنا نتحول بشكل أفضل إلى التحكم بمسارات الأحداث بأفعالنا لا بأفعال إيران. ونجعلها تنشغل بردود الأفعال. إن الحقيقة التي يجب أن تعيها كل دول العالم من أجل تحقيق السلم العالمي، بأن هناك علاقة طردية للإرهاب مع إيران. فعندما تتوسع إيران يتوسع الإرهاب معها. وعندما تتقلص إيران سيتقلص الإرهاب أيضاً.