توصيف هذا العصر بأنه عصر الانفجار المعرفي لم يكن إلا أحد المؤشرات العديدة على قدرة الإنسان للتحليق في فضاءات العلم، وخوض عباب المعرفة التي صار فيه مفهوم التخصص عنواناً لافتاً في الواقع الإنساني الحديث الذي تتصاعد مخرجاته، بل صار مفهوم التسارع المعرفي يسابق الزمن، إلى درجة صارت القضية الفلسفية المشهورة التي تمثل أحد معاني الصيرورة المعرفية؛ حيث تشير إلى أنه لا يمكن لأحدنا أن يضع قدمه مرتين في نفس النهر؛ إذ النهر لن يعود نفس النهر بحركة جزيئات الماء فيه، القبْليّة عن تلك البعديّة. وحالياً فإن التطور المعرفي والتكنولوجي وتوسع التعاطي المعرفي من «كوارك» فيزياء الكم إلى عالم الثقوب السوداء في مجرات الكون، وما بين ذلك فيه من الأسرار غير المتناهية، التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ». إن ظهور مفهوم العقول المهاجرة، الذي يعرّف بأنه هجرة أبناء الشرق من ذوي القدرات العلمية، حينما كانت في بواكيرها آنذاك إلى دول العالم المتقدم علمياً في الغرب، التي يصفها الدكتور محمد عبدالعليم مرسي، في كتابه نزيف العقول البشرية، الصادر في 1983م، بقوله:»ولكن نسبة من أصحاب هذه العقول قد غادرت أوطانها، وفرّت بنفسها، إما يأساً من الإصلاح، أو انجذاباً إلى الإمكانات الهائلة المتاحة للعلماء والباحثين في بعض دول العالم المتقدم، خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية». وفي الوقت الذي بقي اسم آينشتاين، عالم الفيزياء الحديثة، وصاحب النظرية النسبية الخاصة، والنظرية النسبية العامة، والحائز على جائزة نوبل لأبحاثه الفيزيائية ودوره العلمي في إثبات ظاهرة التأثير الكهروضوئي، فإن غالبيتنا لا يعرف عن أحد القامات العلمية العربية في مجال الفيزياء الحديثة، ومن الذين ارتبط اسمهم بآينشتاين، بل لقّب بآينشتاين العرب، وكانت مقولات آينشتاين فيه بعد وفاته مؤشراً للكفاءة العلمية البارعة التي تمثلت في عالم الفيزياء المصري الكبير البروفسور علي مصطفى مشرفة، الذي قد لا يشار إليه في كتب الفيزياء لدينا في سنوات التعليم العام، وهذا مما يجب أن يلتفت إليه ويؤخذ به، لعدة أسباب، أحدها التعرف على الرموز العلمية العربية في العصر الحديث، لأن في سيرة هؤلاء تحفيزاً كبيراً للطاقات الشبابية في بلداننا، وتشجيعها للانخراط في إكمال المسيرة العلمية في مراحل الدراسات العلمية، خاصة في حقول المعرفة العلمية لمجالات العلوم الحديثة بكل عناوينها وتفرعاتها واهتماماتها؛ فمجال تكنولوجيا النانو بات محل التداول الشفاهي بين غير المتخصصين، إلى درجة قد يسمع أحدنا بمصطلح النانو في مسامراتنا الشعبية حالياً. ومعروف أن هذا الحقل العلمي يشهد تقدما متسارعاً وله انعكاسات إيجابية، في الطب والصحة، ومجالات الحياة، كما يُتوقع أن يشهد ثورة تكنولوجية في أكثر المجالات. إنّ «الفمتو» ثانية لصاحب نوبل في الكيمياء، في 1999، العالم العربي المصري الشهير في أيامنا الدكتور أحمد زويل، يؤكد حقيقة أننا بحاجة لإيجاد البيئة العلمية الحديثة، ولذلك فتوجهاته الجادة إلى إنشاء مشروع علمي في بلده الأول مصر، تحت مسمى مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا، كمبادرة تحتاج من بلداننا إلى تلبية حاجات العصر، من خلال إطلاق مشاريع تطوير علمية وتقنية، تتناسب مع ضرورات الزمن، وتمتلك الرؤية التي يمكنها من التقدم والوصول إلى عتبات العالم المتقدم، وإلا غرقنا في لجج حمولات مسمى العالم النامي، والعالم الثالث، الذي قد يتأخر إلى الرابع والخامس، ما لم نمسك بزمام المبادرة، لتكون أجيالنا المقبلة فرس الرهان في العقود المقبلة من النصف الثاني من الألفية الثالثة. وهذا لا يأتي إلا بوضع خطط يتكامل فيها كل عناصر النجاح الذي سبقتنا إليه بلدان، يمكن أن نستلهم تجاربها، ونستحث طاقاتنا العلمية الكامنة. إننا قد نتكلم راهناً عن وجودٍ ولو نسبيٍّ لمفهوم الأكاديميات الرياضية لدينا، كما هو معمول في أوروبا، بهدف اكتشاف المواهب الناشئة، لتنميتها (رياضياً)، وفق نظام يتناسب مع أهداف هذه الأكاديميات الرياضية، ويوازن بين تحقيق التميز الرياضي، والتحصيل الدراسي. وبعبارة جازمة يجد الإستراتيجيون أنه لا مناص من صياغة رؤيةٍ تهتم بالشباب علمياً وتكنولوجياً، حيث تأتي الحاجة لظهور أكاديميات علمية وتكنولوجية ومراكز أبحاث شبابية، ضمن أهم التطلعاتا لتي تتناسب مع إرهاصات العصر، فهي البناء الحقيقي، والاستثمار الفعلي لأهم الموارد، التي هي المورد البشريّ عموماً والشبابيّ بدرجة خاصّة، فمن خلال الشباب نستشرف الأمل والخير والنماء للأرض والإنسان، ونبحث عن الفرص ولا نهدرها لأنّها تمرّ مرّ السحاب، وفوات الفرصة غصّة، فيما المبادرات الجادة، تؤتي ثمارها ولو بعد حين. مؤخراً افتخرنا بإطلاق وكالة ناسا اسم أحد أبنائنا على أحد الكويكبات، حيث كان عالم طالب البكالوريوس وعالم المستقبل عبدالجبار الحمود ، محطّ الأخبار الرئيسة، ومحلّ احتفاء الجميع، حينما كرمته الوكالة المذكورة لأبحاثه العلمية في مجال النبات. كما برز اسم طالبة الماجستير المهندسة آلاء القرقوش، من كلية العمارة والتخطيط بجامعة الدمام، لحصولها على براءة اختراع على مستوى العالم، من مكتب البراءات الأمريكية – براءة الاختراعات التطبيقية، وعلى مستوى المملكة من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، بعد ابتكارها نوعا جديدا من ناشرات الصوت التي توفر مجموعة واسعة من الحلول التصميمية القابلة لإعادة التشكيل داخل الفراغ، علماً أن هذه الدراسة استغرقت مدة عامين بين تحويل الظاهرة إلى أشكال ثلاثية، وقبيل ذلك بأسابيع، حصدت المعلمة ندى آل عباس، الميدالية الذهبية في مسابقة معرض «أنوفا للاختراعات الأوروبية»، الذي أقيم في العاصمة البلجيكية بروكسل أخيراً، والميدالية الذهبية «أيتكس» من ماليزيا، وذلك على اختراعها المكون من شريحة بلاستيكية تعطي تشخيصاً فورياً، فيما إذا كانت الخلية، سرطانية أم لا. وتم تكريمها أمس من مكتب المخترعين الأوروبي الفرنسي في العاصمة البلجيكية بروكسيل. لغة المعرفة هي اللغة التي لا يفرّطُ فيها، والأمم قوية بالعلم.