بحصوله على خمس جوائز أوسكار فجر الأحد الماضي، يكون فيلم «الفنان» الذي يحمل توقيع المخرج هازانا فيسيوس، تكون السينما الفرنسية قد ثأرت لنفسها من هوليوود، إذ خطفت أهم الجوائز في السينما العالمية لهذا العام من عقر معقل السينما الأمريكية هوليوود، بإمكاناتها فائقة الضخامة، وبواسطة فيلم لم يتجاوز مردوده أكثر من مردود الأفلام الأمريكية الشائعة والتسطيحية، وعلى مرأى ومسمع من مخرجيها الكبار: وودي ألان وستيفن سبيلبيرغ ومارتن سكورسيزي وسواهم، وكذلك نجومها الأفذاذ مثل روبير دي نيرو. في تسعينيات القرن الماضي قال أحد كبار مخرجي السينما الأمريكية في الوقت الذي كانت تكتسح فيه أفلامه البائسة حتى صالات العرض الباريسية مخاطبا الفرنسيين: «اذهبوا يا أهل فرنسا واصنعوا جبنا ونبيذا طيبين ودعوا السينما وشأنها لنا»، لكن عاد هازانا فيسيوس بفيلمه الصامت الذي بالأبيض والأسود ليلقن أساطين هوليوود درسا في الإخراج السينمائي وفن التمثيل، وقبل ذلك في الأخلاقيات العالية في الصناعة السينمائية، لذلك ليس عيب في إنجليزيته قال كلاما بالفرنسية معبرا عن فرحته بأنه «أسعد مخرجي السينما في العالم قاطبة، هو الذي ترشح فيلمه للأوسكار عشر مرات للمرة الأولى ففاز في خمس من بينها، في حين كان آخر فيلم صامت بالأبيض والأسود قد حاز جائزة أوسكار هو «الأجنحة» العام 1929 عندما كانت أكاديمية الفنون قد استقرت منذ سنوات عديدة فقط على اسم أوسكار ليتم منح الجائزة باسم جائزة الأوسكار. وبالتأكيد فقد أسالت السينما وفنونها ونجومها وتطوراتها التقنية والفنية الحادثة باستمرار حبرا كثيرا في العالم كله، وشهدت أبطالا حقيقيين ومخرجين وممثلين أفذاذا وآخرين من طراز رفيع فضلا عمَن دخلوا إلى باحتها الخلفية وظلوا هناك دون أثر يُذكر. لكن السينما الصامتة ظلت هي الأساس الذي تتلمذ على يديه المخرجون والممثلون الكبار، فإن تسأل نجوما من طراز روبير دي نيرو أو الراحل مارلون براندو لقال لك بأن مثله الأعلى في التمثيل من السينما الصامتة وليس الناطقة. وعموما فقد كان هذا الانتقال من السينما الصامتة إلى الناطقة هو موضوع الفيلم، إذ يتناول «الفنان» حكاية ممثل بارز في السينما الصامتة لم يعد يتقن دوره في السينما الناطقة فتحول الرجل إلى أخرس في مواجهة مدّ السينما الناطقة الذي ركبه أنصاف الموهوبين من الممثلين والمخرجين في هوليوود ذاتها، أي أن موضوع الفيلم الذي غزا به هازانا فيسيوس هوليوود الناطقة بمأساة إنسانية كبيرة من جراء تحولها عن صمتها، وإصرارها على لعب دور بعيد عن الأخلاقيات الأساسية لجوهر أي فن من الفنون لصالح الدعاية لكل ما هو نموذج أمريكي وفقا لمقاييس بعينها تحددها السياسات الخارجية الأمريكية ولوبيات المال والشركات العابرة للقارات. الأمر الآخر الذي ينبغي التوقف عنده هو التمثيل. فجان دو جاران البالغ من العمر تسعة وثلاثين عاما فقط هو الآن أحد ألمع نجوم السينما الفرنسية لدى رجل الشارع الفرنسي بحسب ما تناقلت ذلك وسائل الإعلام، لكنه قدم دورا في «الفنان» شديد النخبوية وكأنه بلعبه الفذ في جسده كممثل كان يتوجه إلى الممثلين الأمريكيين بأن فن التمثيل أداء في الأساس وليس عضلات محاطة بقطيع من الشقراوات الغبيات فقط. وهذا التوصيف: الغبيات هو التوصيف الهوليوودي للنجمات السينمائيات حتى وقت ليس ببعيد، وليس من باب التجني عليهن. ما يودّ جاران قوله إن التمثيل فعل وردّ فعل دراميين، وحالة من الإيقاع الذي يصنعه الكلام فالصمت، وحوار مع الجسد -الذات مثلما أنه حوار مع الجسد- الآخر وفقا لخط درامي متصاعد من النقطة ألف إلى النقطة ياء هبوطا وصعودا تبعا للإحساس ودون زيادة في جرعته أو نقصان. باختصار حاز الفيلم جوائز ثلاث أخرى لا تقل أهمية عن التمثيل والإخراج، جائزة أفضل فيلم سينمائي، الذي يلعب التصوير الدور الأساسي لحصول أي فيلم على هذه الجائزة ثم جائزتي أفضل موسيقى وأفضل أزياء، علما أن الجوائز جميعا يتم الترشيح لها للمرة الأولى والفوز بها من المرة الأولى جميعا. كل هذا جعل من «الفنان» مأثرة عظيمة يستحق أن يحتفي بها الفرنسيون، إذ أن الفيلم قد أدخل كل مَن شارك فيه إلى تاريخ السينما من بوابته العريضة وحده دون أن يضطر لمزاحمة مع أي أحد.