حذّر إماما الحرمين الشريفين المسلمين من الاغترار بما يرونه من كثرة المبطلين من أهل الضلال وقلة السالكين من أهل الحق، ولفتا كذلك إلى ضرورة التزام الانتماء للوطن الذي يتطلب محبته والتضحية له وتقدير علمائه وطاعة ولاة أمره والقيام بالواجبات والمسؤوليات والحرص على ممتلكاته ومؤسساته واحترام أنظمته والعمل على تنميته وبذل المال لفقرائه وسخاء النفس مع أبنائه ودعم ومشاريعه. موضحَين أن الانتماء للوطن يتوافق مع الانتماء للدين، بل إنه مستمد من الانتماء إلى الإسلام، وأنه يعزز الأمن بكل صوره ويحصِّن من الغزو الفكري ويقوي اللحمة الداخلية التي تحمي ممن يريد إحداث الفتن والقلاقل. ودعا إمام الحرم المكي الشيخ الدكتور أسامة خياط في خطبة الجمعة إلى الابتعاد عن كلِّ سببٍ يُبعِدُ القلبَ عن الربِّ سبحانه، ويحولُ بينه وبين الاستجابةِ له ولرسوله صلى الله عليه وسلم. مشيراً إلى أن علو القدر، وسمو المنزلة، يوجبان كمال الطاعة وقوة الاستجابة، وإذا اقترن هذا العلو والسمو بالإنعام والمنن والإكرام، كانت الطاعة للمنعم أتم، والاستجابة له فيما يأمر وينهي أكمل وأقوى وأجمل، وهذا مما تقرُّ به العقول السليمة، وتذعن له النفوس السوية في حق المخلوق العاجز الفاني. وبيَّن خياط أن شجرة التوحيد تزكو وتنمو وتطيب ثمارها وتزداد، رونقاً وبهاءً، كلما سُقيت بماء الاستجابة لله وللرسول صلوات الله وسلامه عليه، تلك الاستجابة التي تتجلى في فعل الطاعات، وترك المعاصي رغبة في جميل الموعود عليها بحسن الثواب، وخوفاً من أليم العقاب، ويدخل في ذلك ويفضي إليه ويدل عليه، قراءة القرآن بالتدبر لمعانيه، والاتعاظ بعظاته وفهم ما يراد به، وما نزل لأجله، وأخذ نصيب العبد من كل آياته وإنزالها على داء القلب، والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، ودوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل، وإيثار محابِّ الله على كل ما سواها من المحاب، واستحضار نعم الله وبره وإحسانه على عباده، وانكسار القلب بين يدي الله تعالى. وقال: إن اللبيب الموفَّق ليقف من كل ما يحول بينه وبين الاستجابة لله وللرسول ويصده عنها موقف أولي الألباب في الدراية به، والنفرة منه، والتحذير من غوائله وسوء العقبى فيه، فلا يغره ما يراه من كثرة المبطلين من أهل الضلال وقلة السالكين من أهل الحق والهدى وهو يسمع كلام الله محذراً له من الاغترار بالكثرة المضلة بقوله وهو أصدق القائلين: «وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ»، وبقوله سبحانه وتعالى: «وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ». وأضاف: يدرك المؤمن شدة الحاجة إلى من يقتدي به في الدين والعلم والعمل، وأن الله تعالى جعل في نبيه الأسوة الحسنة لمن أراد حيازة الخير لنفسه والنجاة في آخرته فقال سبحانه: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا»، والهداية ناشئة عن الاقتداء به واتباعه: «فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»، ولا يرتاب أن طول الأمل من أشد الصوارف الملهية عن الاستجابة لأنه يغرُّ صاحبه ويعده ويمنِّيه بطول البقاء حتى يفجأه الموت بغتة. وفي المدينة تحدث إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ عبدالباري الثبيتي عن الانتماء وصوره، وقال في خطبته أمس إن الانتماء زيادة وارتفاع وهو شعور يدفع صاحبه للارتقاء وينمي الولاء واستشعار الفضل، وأجلُّ انتماء هو شرف اتصال العبد بالله جل في علاه الذي يفضي إلى الاطمئنان والاستقرار والسعادة الأبدية، قال الله تعالى «ألَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ»، ومن صور الانتماء، الانتماء إلى الإسلام الذي هو أعظم نعمة، وإذا حلت المحن وتنوعت صنوف الإغراء واشتدت المصائب واشتعل لواء الحرب على الإسلام يبقى الانتماء إلى الإسلام قويّاً لا يتزعزع وراسخاً لا يتردد. وأضاف: إن عظمة الانتماء إلى الإسلام نراها في الارتقاء بكل العلاقات عن اللوثات العنصرية، فلا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى؛ فالإسلام يأبى كل الانتماءات الحزبية الضيقة والعصبية المقيتة فضلًا عن الانتماء لأهل الباطل لقوله تعالى «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» ليبقى انتماءً شامخاً واحداً نقيّاً. وبيَّن أن الانتماء إلى الإسلام هو الانقياد والاستسلام والتزام الجوارح وطاعة الله والولاء لله ولرسوله، مشيراً إلى أن الانتماء للإسلام يقتضي الانتماء للأمة بالشعور بأحوالها والعمل على نصرتها، كما أننا ننتمي إلى تاريخنا الذي حمل لواء الهداية للعالم وإلى لغتنا الخالدة لغة القرآن الكريم. ومضى قائلاً: إن من الانتماء انتماء العاطفة الذي هذَّبه الإسلام ووجه مساره وضبط حركته، وفي الأخلاق يظهر صدق المسلم وأثر الإسلام في هيئته وكلامه ولباسه وسلوكه، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال، وقال ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء، مشيراً إلى أن ضعف الانتماء يقترن بذوبان الشخصية وتميُّعها، وقد يستحي ضعيف الانتماء أن يظهر بعض شعائر دينه. وأكد الثبيتي أن الانتماء للوطن أمر غريزي وحبه فطري، وقد ابتلى الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بفراق الوطن فقال «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت»، ولما علم أنه سيبقى مهاجراً دعا بتحبيب المدينة إليه وكان يدعو لطيبة وطنه بكل خير فكان يقول «اللهم اجعل بالمدينة ضعفَي ما جعلت بمكة من البركة».