إحدى أبرز المعضلات في تطور المجتمعات في العالم الثالث هي الفقر المعرفي، حيث نجد أن نسبةً لا يستهان بها من المتعلمين في تلك المجتمعات يعانون من فقر هائل في المعرفة، وهذا ناتج أولاً وأخيراً عن ضعف المناهج التعليمية، بالإضافة إلى غياب البرامج والأنشطة الفكرية والثقافية، التي تساهم في حث العقول على التفكير والتدبر، وعدم التأثر بما يشاع من أفكار ومسلمات اجتماعية دون إخضاعها للنقد والمراجعة، كي تتحرر الأجيال من سطوة التراث الشعبي المتخم بالأفكار السطحية والمتهافتة، ناهيك عن أن غياب الكوادر المؤهلة ذات الحصيلة المعرفية الجيدة، خلق فراغاً فكرياً ومعرفياً أدى في نهاية المطاف إلى حالة من الارتباك والتناقض في المشهد الثقافي في كثير من البلدان النامية، فالمؤهل العلمي ليس بالضرورة دليلاً على أن الشخص يمتلك من العلم والمعرفة ما ينأى به عن شراك الجهل، ويجعله بمأمن من الوقوع في حبائل النمطية السائدة في مجتمعه، والأمثلة على ذلك لا حصر لها، ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على ما يدور في عالم الإنترنت لنتأكد من أن الكثير من المتعلمين أو ممن يحملون مؤهلات عالية، لا يختلفون كثيراً عن أصحاب الشهادات المتدنية علماً ومعرفة، بل إن هناك بعضاً من الذين لم ينالوا تحصيلاً علمياً كافياً يفوقون في فكرهم ورقي طرحهم من هم أعلى منهم شهادةً ومرتبة علمية! إذاً الأمر يتعلق بشكل مباشر بمصادر المعرفة التي ينهل منها كلاهما، وليست بما يحمله من مؤهل علمي قد لا يعتمد على المجهود الذهني للمتعلم، إلا أن المتعارف عليه اجتماعياً أن المقارنة بين طرفين متفاوتين علمياً ومعرفياً ترجح دائماً كفة الأعلى مؤهلاً، دون النظر إلى كفاءته العلمية والمعرفية من عدمها، وهذا من وجهة نظري معيار ظالم يحد من تنامي ظاهرة الإبداع التي تضفي على الحياة الفكرية والثقافة بعداً جمالياً لا يمكن تعويضه بالمؤهلات والألقاب العلمية والاجتماعية. لذلك تعيش النُخب الفكرية في المجتمعات النامية أوضاعاً مأساوية على الصعيد الفكري والثقافي، لأنها دائما في حالة صدام ومناوأة مع الموروث الفكري والاجتماعي اللذين يشكلان الإطار العام للثقافة الجمعية للمجتمع، ومن هنا تظهر الإشكالات والمعوقات التي تحد كثيراً من مساهمتهم في مجال العلم والمعرفة. وتأتي في مقدمة تلك المعوقات ظاهرة الرفض المسبق التي تواجه أفكارهم وآراءهم على المستوى الاجتماعي، بصورة لا تستند بأي شكل من الأشكال على خلفية معرفية تساعد على فهم مسببات ومسوغات حالة الرفض التي يبديها بعضهم، والمؤسف في الأمر أن طوفان الثورة المعلوماتية المعاصرة، لم يستطع قلع جذور ثقافة الرفض المستندة على حجة «سد الذرائع» بصورة خاطئة تلغي أهمية العقل في تطور المجتمعات، وتقوض من فرص التحول إلى مجتمع العلم والمعرفة. ولو عدنا إلى الوراء قليلاً وتأملنا كيف كان التيار الديني المتشدد يرفض كل منجزات الحضارة الإنسانية المبهرة، بدءا من تركيب الأطباق الفضائية على أسطح المنازل وانتهاءً باستخدام الهواتف المحمولة ذات الكاميرات المدمجة، حيث كان المتشددون آنذاك يقحمون في مواعظهم وخطبهم في المساجد والمخيمات الدعوية، كل ما من شأنه أن يثني البسطاء عن استخدام تلك التقنية الحديثة، مثل القدح في عقيدة المستخدم والتشكيك في غيرته على عرضه وشرفه ..إلخ. لكن لم يكن بالإمكان أن تصمد تلك الحجج الواهية أكثر مما صمدت أمام الانفتاح العالمي الرهيب، الذي أجبر الناس على تمحيصها ووضعها تحت مجهر النقد الاجتماعي، بعدما وصلت أصوات الطبقة المعتدلة والمتنورة إلى أسماعهم، مفندةً هشاشة تلك الأفكار المتزمتة والمنغلقة بالأدلة والبراهين، وهذا ما دفع كثيرين إلى عدم الالتفات إلى أي دعوة من هذا القبيل، حيث سقطت من يد التيار المتشدد آخر الأوراق التي كان يناور بها من أجل استمرار هيمنته على مفاصل الحراك الاجتماعي، لكن حدث بعد ذلك تطور خطير جداً لم يكن يتوقعه الجميع، إذ تخلى بعض المتزمتين عن قناعاتهم وأفكارهم السوداوية حول مساوئ المنجزات الحضارية، التي كانوا يصورنها شراً مطلقاً ورجساً من عمل الشيطان، وأخذوا يتسابقون على اللحاق بركب المنافسة الإعلامية، بل أصبح بعضهم نجوماً لا يشق لهم غبار في البرامج التلفزيونية، وكذلك في وسائل التواصل الاجتماعي!. أعتقد أن السبب الرئيس في صعود نجمهم إلى فضاءات لم يكونوا حالمين ببلوغها، هو أن الانفتاح الحضاري لم يُخلص كثيرين من رواسب فترة الانغلاق المعرفي، يوم كانت مراحل التأسيس تعتمد بشكل أساسي على الحفظ والتلقين، فالغالبية العظمى اكتفت بقشور المعرفة التي يتيحها متصفح الإنترنت ولم تعمل على تحسين قدراتها الفكرية بالقراءة الجادة والاطلاع على تجارب المختلفين من الثقافات الأخرى. المضحك في الأمر أن كثيراً من الرموز السابقين لحقبة الانغلاق والتزمت، رغم شهرتهم الواسعة في شبكات التواصل الاجتماعية في الوقت الراهن، إلا أنهم أبعد ما يكونون عن القضايا الحيوية التي تهم المجتمع، مثل مسألة تطوير التعليم وتحسين مستوى الخدمات الطبية والاهتمام بالبنية التحتية وغيرها من القضايا المهمة، ومع ذلك فإن أعداد متابعيهم في تزايد مستمر، وهذا يؤكد أن الفقر المعرفي أنتج أجيالاً سهلة الانقياد وغير قادرة على التمييز بين الغث والسمين.