يبدو أننا كائنات «شكّاية» لا تتقن غير التألم والعويل، نعتقد أننا محور الزمان، أو أن الحياة ستفنى إن نحن فنينا. من طبيعتنا أن نبحث عن مأوى ونلوذ بركن ونفتش عن رعاية وننقب عن كلمة تُحيينا أو إشارة تمنحنا أملاً. حُب الذات فطرة، ولكن لا نتطرف بها إلى نظرة (هوبس) الشاذة التي نظر هو من خلالها إلى أن حب الذات قاعدة أخلاقية وحيدة في البشر، حتى ذهب به ادعاؤه إلى أن فسّر الضحك على أنه حالة نفسية لا تعدو أن تكون نوعاً من الاستعلاء والكبرياء نستشعرها عند رؤية زلات الآخرين، ولا هي تتطرف إلى الناحية المُقابلة فتغدو قيمة مُهانة تحط من قدر صاحبها فتُركبه البغلة بعد الفرس الشهباء. دعونا من هذا التنظير المنكود وننظر إلى واقع لحظاتنا وسير خطواتنا من درب إلى درب آخر. ها نحن نشقى بالجنون ولا نسعد بالعقل، نغضب من الزحام ولا نفرح في الخلاء، تنفرُ النفس من الصداع ولا تتلذذ بالصحة، نتعذر بضيق الوقت فإذا أُفرغت أوقاتنا غفلنا، يوحشنا طول نأي المُحبين، فإذا لقيناهم لم نغتبط بما يُعادل تلك الوحشة، نتململ من الروتين والخُطى المعتادة ولا ننشرح بالجديد، نهرب من الملل فنعبر القارات، فإذ به يستقبلنا كاشف الرأس، نتبرم من العمل ولا نسلو في أوقات غير العمل، نفرح فرح الضال في البادية يرى معالم الطريق، فنسأم سأم المُهتدي في المدينة يحفظ معالم الطريق. وكأننا في معركة مع الموت الزؤام. هناك خللٌ ما عشعش في رؤوسنا، وسيطر على أطرافنا متمثلٌ في كينونة مجتمعنا القاتل، القائم على ثلاثة أركان فتّاكة، يبدأونك باللوم على «ابتسامة»، فتشعر أنك ضحية، لم تعمل عملاً يسلبهم مالهم، أو ما يكدر وجودهم، ولكنك مُلام لا محالة، ثم تنتقل معك النظرات إلى النقد الخانق، تنهار منظومتك الداخلية، تتفسخ اعتقاداتك، تنحلُّ مداركك، تخور ذاتك. وهل في ذلك كفاية؟ بل ينتقلون بك إلى المستوى الأخير من العدم، مقارنتك بآخر، وهي المُهلكة. يدفعون بك للتردي من علو لعلك تهلك أو تتحطم عظامك. أما تراهم يجعلون وَكْدَهم وهِجِّيراهم لإهلاكك، فلماذا سمحنا لهم؟ من المُحال أن نُغير واقع الظروف، ولكن ليس علينا أن نرقص معها، بمقدورنا التحكم في ذواتنا بأفكارنا. تعالَ وأخبرني، هل تستطيع أن تُقزِّم حالتك المضطربة أو معضلاتك اليومية وتجعلها فقط موجودة في إدراكك؟ غيرُك استطاع فحاول ذلك. في الطريق السريع إن كُنا مستعجلين فمئات من حولنا يسيرون ببطء شديد وكأنهم عاطلون عن العمل، وإن كنا متمهلين فمئات أيضاً من حولنا يسيرون بسرعة مجنونة وكأن الدنيا شارفت على الإقلاع. لا بأس أن نقتبس هنا بعضاً من مبادئ المذهب اللامادي البائس في أن الحقائق موجودة في أدمغتنا فقط، وإن كان ذلك من باب الخيال. فمرحباً بخيالٍ يرتفع بروحي عن تعقيدات الواقع. لا تمنح أحداً عنان دابتك ولا تسبح ضد تيار الحياة اللجب، كُن هادئاً فالعربة الفارغة أكثر ضجيجاً من العربة الملأى، واذكر قوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين).