الأسهم الأوروبية تغلق على تراجع    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء يقرّ الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2025م    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    مغادرة الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    الأسبوع المقبل.. أولى فترات الانقلاب الشتوي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    مبدعون.. مبتكرون    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    قمة مجلس التعاون ال45 بالكويت.. تأكيد لوحدة الصَّف والكلمة    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    حوادث الطائرات    حروب عالمية وأخرى أشد فتكاً    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    الرياض الجميلة الصديقة    هؤلاء هم المرجفون    المملكة وتعزيز أمنها البحري    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    حملة على الباعة المخالفين بالدمام    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صقر: عباس ودحلان أدارا في الخفاء المواجهة المسلحة مع كتائب القسام
نشر في الشرق يوم 28 - 02 - 2012

في حلقة أمس من قصة حياة الشهيد الحي اللواء مصباح صقر، أول رئيس لجهاز الأمن الوقائي الفلسطيني، التي تنفرد «الشرق» بنشرها على لسانه على مدار ست حلقات، اتّهم صقر قائد الشرطة الفلسطينية السابق، العميد -آنذاك- غازي الجبالي، بالتآمر عليه بعدما كشف ما أسماه علاقاته النسائية المشبوهة، وعمل سيدة في بيته تدير شبكة للدعارة، وعلى علاقة بأشخاص مشبوهين أمنياً.
وفي الحلقة الرابعة يؤكد اللواء مصباح صقر ل»الشرق» أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والقيادي في فتح محمد دحلان، هما من أدارا في الخفاء المواجهة المسلحة مع كتائب عزالدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، في يونيو 2007، التي انتهت بهزيمة أجهزة السلطة، وإصابة القيادة بصدمة إثر الانهيار المفاجئ لها.
ويُرجِع صقر هزيمة الأجهزة الأمنية إلى انعدام الرقابة عليها، وتدني مستوى التدريب والتسليح، وانخفاض الروح المعنوية لأفرادها، نتيجة غياب المرتبات وتسييس عملية الانتساب لها، بعدما فتح محمد دحلان، حسب شهادته، باب الانضمام إليها أمام المئات من الفتحاويين دون معايير مهنية، لافتاً إلى تحذيره الرئيس السابق ياسر عرفات من خطورة هذا التسييس، إلا أنه لم يقتنع.
مصباح صقر وياسر عرفات (الشرق)

غزة – محمد أبو شرخ، سيد زكريا
عرفات لم يقتنع بتحذيري له من تسييس الأجهزة الأمنية
دحلان ضم المئات من أبناء فتح للأمن دون معايير مهنية
غياب الرقابة وتدني التدريب أسباب الهزيمة أمام حماس
إجهاز كتائب القسام على رجال الأمن أصاب القيادة بصدمة
اليوم في الحلقة الرابعة من حواره الخاص مع «الشرق» يجيب مصباح صقر عن تساؤل هام كان يشغل بال المراقبين: كيف استطاعت كتائب عز الدين القسام، الذراع العسكري لحركة حماس بقطاع غزة الإجهاز على الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية التي يفترض أنها أكثر قوة وعتادا وتسليحا منه بأضعاف؟ فمجال المقارنة التقليدية بين أعداد مقاتلي كتائب القسام وأعداد جنود أجهزة أمن السلطة التي شاركت في المواجهة يميل تماما لصالح الأخيرة، حيث لم يتجاوز أفراد القسام العشرين ألفا على أفضل تقدير، فيما كان عدد أفرد هذه الأجهزة في القطاع حسب الكشوفات يربو على خمسين ألفا، فكيف خسروا المواجهة؟
فضلا عن ذلك كانت الأجهزة الأمنية تستهلك حصة ضخمة من ميزانية السلطة الفلسطينية، حيث إنها في عام 2006 وحده، حظيت ب 40% على الأقل من الميزانية العامة، وهنا يلقي مصباح صقر الضوء على عمل هذه الأجهزة الأمنية من البداية، وحتى لحظات انهيارها الدرامتيكي المذهل في غزة.
في «قمة الهرم»
يقول اللواء صقر: «لقد جاءت تجربتي كقائد لجهاز الأمن الوقائي، خلال مرحلة انتقالية بالغة الخطورة بالنسبة للثورة الفلسطينية، كنا ننتقل من مرحلة الثورة إلى مرحلة بناء الدولة بحسب اتفاقيات أوسلو، مما كان يستلزم منا العمل بجِد كامل وبطريقة مختلفة تماما عما كانت الأمور تسير عليه خلال مسيرة الثورة، مع معالجة سلبيات واقعنا الثوري، والقضاء عليها، إلا أنني ومنذ اللحظات الأولى، وجدت أن الأمور لم تكن تسير في هذا الاتجاه على الإطلاق، بل في الاتجاه المعاكس له. منذ البداية، كان على صقر قيادة عدد محدود من الزملاء لبناء الجهاز الجديد، بهيكليات تنظيمية كاملة ومعروفة، بما في ذلك توصيف كل وظيفة لضمان تأسيس الجهاز على أسس مهنية سليمة، تضمن استقراره منذ لحظات مولده الأولى، وأن تكون شروط القبول له صارمة بعيدا عن المحسوبيات والرشاوى.
عَمِلَ اللواء صقر مع العميد عبد الحي عبد الواحد على وضع معايير صارمة لكل شيء في الجهاز، كما تم تحديد ستة معايير هامة لقبول أي شاب يرغب في الانتساب إليه، من بينها المؤهل العلمي، والثقافة العامة، والتاريخ النضالي، حيث كان التقييم يتم عبر إعلان واضح أمام الجمهور، لمن يرغب الترشح، كما كان تقييم المترشحين يتم عبر آلية صارمة ووفقا للوائح محددة، إلا أن كل تلك الجهود ذهبت أدراج الرياح.
يحكي اللواء صقر: « كل الخطوات المهنية والفنية التي عملنا على وضعها أنا وزملائي المخلصين في الجهاز فشلت لأسباب كانت تفوق سلطاتي، فمحمد دحلان مساعدي استطاع توظيف عدد كبير يقدر بالمئات من أنصار حركة فتح في الجهاز منذ بداية تأسيسه، دون الخضوع لأية قواعد، فقط استصدر خطابات رسمية من الرئيس الراحل عرفات وممهورة بتوقيعه بما يعني وجوب التنفيذ، وهو ما حاولت الاعتراض عليه مرارا، ونبهت عرفات لخطورة تسييس الأجهزة الأمنية لكنه لم يكن يقتنع أبدا بذلك» .
كان واضحا منذ اللحظات الأولى لمولد الجهاز أن قاعدة «أنا من وظفتك في هذا الجهاز، أنا ولي نعمتك» تعمقت ليس في جهاز الأمن الوقائي وحده، بل وفي مختلف أجهزة الأمن الفلسطينية، وهو ما حاول دحلان استغلاله إلى أقصى درجة ممكنة، بحسب صقر، حيث أقبل قادة الأجهزة الأمنية الأخرى المفعمون بإرث حركتهم السياسية على فتح أبواب الانتساب لهذه الأجهزة ارتجاليا وعلى عجل وفي جو مشحون بالتنافس والتسابق على امتلاك ناصية النفوذ في الساحة الفلسطينية التي كانت قاصرة وقتها على «غزة – أريحا»، والغريب، وفق شهادة صقر، أن عملية تنسيب الأفراد الجدد كانت تتم بعشوائية شديدة، كما أن منحهم الرتب العسكرية كان يتم بعشوائية أكبر، ولاعتبارات غير مهنية أو فنية.
ويكمل صقر وقد علت وجهه ابتسامة خفيفة: «من خلال موقعي كمسؤول أول عن جهاز الأمن الوقائي، واطلاعي عام 1995 على إحدى يوميات المنطقة العسكرية الجنوبية، اكتشفت حقيقة مذهلة تتعلق باختلال النسب بين الرتب العسكرية المختلفة، فعدد الضباط وصل 416، وأعداد ضباط الصف بلغت 357، أي ما يبلغ مجموعهما معا 773 ضابطا، بينما لم يزد عدد الجنود عن 362 فردا».
ثم أطلق ضحكة خفيفة، لأول مرة منذ بداية مقابلاتنا معه، وهو يردف: «إليك واقعا أمنيا آخر مثيرا للاستغراب، كيف يمكن أن يكون هناك شرطة بحرية بمدينة نابلس التي لا تطل على البحر أصلا؟»، ثم اتسعت ابتسامته وهو يكمل: «أعتقد أن هاتين النقطتين كافيتان تماما لتوضيح الواقع المعتل الذي كان شاب تشكيل وعمل الأجهزة الأمنية منذ البداية».
وتجدر الإشارة إلى أن كتاب «إصلاح الأمن الفلسطيني» وصف قادة الأجهزة الأمنية في تلك الفترة بأن كلاًّ منهم كان نموذجاً مصغراً من الرئيس عرفات، بعد أن سادت بينهم ثقافة تقديس الفرد، والتفرد في اتخاذ القرارات في ظل حالة من الفوضى والصراع غير الشريف التي حرص عرفات على خلقها بينهم تطبيقا لمبدأ فرق تسد، وهو نهج محبب ومرغوب لديه، لأنه يضمن له ولاءهم الشخصي، ويحكم من خلاله قبضته على أجهزتهم، على حد ما ورد في الكتاب.
وعن تقييمه لأداء الأجهزة الأمنية الفلسطينية بشكل عام، يوضح اللواء صقر الأمر أكثر لقراء «الشرق» بقوله: « كان مستوى الانضباط العام متدنيا للغاية في كافة الأجهزة، وبدت مظاهر ذلك للعيان للعسكريين والمدنيين على حد سواء، كما أن واقعها الأمني كان يقترب من سلوك الميليشيات، منه إلى أداء مهني لأجهزة كان ينتظر منها أن تكون عماد الدولة الفلسطينية المقبلة، وعززت ما أقوله نتائج لجنة التحقيق الوطنية العامة التي رأسها الطيب عبد الرحيم، وشُكِّلت بأمر خاص من الرئيس محمود عباس في يوليو 2007». كانت أسباب تدني الانضباط – مثلما يشير صقر- واضحة تماما له، وقد ضمنها في كتابه «إصلاح الأمن الفلسطيني» حيث أشار فيه إلى جرعات التدريب غير الكافية سواء أكان ذلك من حيث المدة أو نوعية التدريبات المعطاة لأفراد الأجهزة الأمنية، وانخراط عدد كبير من الضباط التنظيميين دونما تأهيل لهم، مع غياب الرقابة على أداء هذه الأجهزة، بالإضافة إلى غياب العشرات من المقتضيات المهنية الضرورية علاوة على الأخطاء القاتلة الأخرى التي كانت سببا في انهيار هذه الأجهزة أمام الذراع العسكري لحركة حماس عام 2007، والكثير منها للأسف يعود للموروث الثوري لحركة فتح.
يتابع صقر في حديثه ل «الشرق»: «تسليح هذه الأجهزة كان متدنيا وسيئا وغير متجانس، باستثناء الفترة التي تلت وفاة الرئيس عرفات من أجل الدفع بتلك الأجهزة إلى التورط في الاقتتال الداخلي الفلسطيني، إذ أن تسليح أفراد هذه الأجهزة كان خاضعا للسيطرة الإسرائيلية وطبقا لاتفاقيات أوسلو، علما بأن غالبية الأسلحة لم تكن تزيد عن تسليح فردي مثل البنادق ورشاشات الكلاشنكوف الخفيف، مع ذخيرة محدودة لها، مقارنة بأعداد القوات الفلسطينية».
وفيما يتعلق بتوزيع القوات بين الضفة والقطاع، فإنه يبدو معكوسا، كما يقول صقر، إذ تم في البداية فرز 18 ألف عنصر أمني بعتادهم البسيط للعمل بالقطاع الذي لا تزيد مساحته عن 365 كيلومترا مربعا، توجد فيه 19 مستوطنة إسرائيلية، مع عدد سكان يربوعن المليون شخص، في حين أن أعداد أفراد الأجهزة الأمنية بالضفة الغربية، التي يزيد عدد سكانها عن ضعف سكان القطاع والمتخمة بالمستوطنات، وتفوق مساحتها 5500 كيلومتر، لم تكن تزيد عن 12 ألف عنصر. شبّك مصباح صقر يديه أمام صدره، فيما راح يكمل تقييمه لأداء الأجهزة الأمنية: «كان توزيع عناصر الأجهزة الأمنية خاضعا للرغبة الإسرائيلية للأسف، إذ إن المقاومة الفلسطينية داخل قطاع غزة كانت أكثر قوة، كما أن قوات الاحتلال كانت تخشى من وجود قوات فلسطينية بكثافة كبيرة في الضفة الغربية التي تحاذي الأراضي التي استولت عليها عام 1948، وبعض مدنها كقلقيلية مثلا تلامس خاصرة الكيان الإسرائيلي».
وسط كل هذه السلبيات التي تسببت في ضعف بنية الأجهزة وانعدام جاهزيتها وانخفاض الروح المعنوية للأفراد، اندلعت انتفاضة الأقصى عام2000 والتي كشفت عورة هذه الأجهزة، كما يؤكد اللواء صقر، من حيث فشلها في الدفاع عن المدن الفلسطينية، فكان التراخي والعجز يبدو واضحا في أداء هذه الأجهزة التي ظنت أن السلام خيم على أرضنا إلى غير رجعة، لتبدأ قوات الاحتلال الإسرائيلي باسترجاع كافة المدن والمناطق التي قامت بتسليمها للقوات الفلسطينية في الضفة الغربية، وفي تدمير أغلب مقرات هذه الأجهزة في الضفة والقطاع.
ويستطرد صقر: «كانت هذه الأجهزة مترهلة تماما، ولم تكن لتحتمل مواجهة من أي نوع كان، حتى مع ذراع عسكري محدود العدد والتسليح والتدريب – وقتها- مثل كتائب القسام، التابعة لحركة حماس».
ويستشهد صقر بحقيقة عسكرية حدثت خلال أحداث يونيو 2007، حيث كانت قوات الأجهزة الأمنية وهي في حالة الدفاع أكثر تعدادا، ومتمترسة في مبان أمنية بعضها تم تجهيزه على أعلى مستوى كما هو الحال في مبنى جهاز المخابرات، وفي مثل هذه الحالة، كما يقول صقر، تكون فرص نجاح الجانب المهاجم محدودة جدا لأنه سيكون مكشوفا خلال الهجوم، وبخاصة أنه لا يملك معدات عسكرية متقدمة تضمن له تغطية الهجوم، لكن ما حدث أن القوات المدافعة مع هذه الميزة الكبيرة قد منيت بالانهيارالمريع والسريع، بل إن الكثير منهم فرّ من مواقعه دون قتال، بعد أن خلع ملابسه العسكرية، على الرغم من أن ما توفر من أسلحة وتدريب لأجهزة الأمن الفلسطينية تحضيرا للمواجهة مع حركة حماس في هذه المرحلة كان أفضل مما وُفِّرَ لها منذ نشأتها، وقد استولت كتائب القسام على العديد من هذه الأسلحة دون أن تستخدم، لذلك كان الانهيارصادما للقيادات السياسية في السلطة وفي حركة فتح».
يتوقف صقر عند هذه النقطة ليشير براحة يده، وقد ارتسمت ملامح الجدية على وجهه، ليضيف: «لقد ضاقت القيادة السياسية والعسكرية على حد سواء ذرعا بما نبهت له منذ عام 1996 في كتاب (ملاحظات على هامش التجربة)، حينما قلت إن العوامل الذاتية التي سادت عملية قبول وإعداد وتجهيز وتدريب هذه الأجهزة، هي من بين العوامل الأكثر تأثيرا على أي أداء أو عمل أمني ستخوضه سواء مع الاحتلال أو مع أي قوة داخل الساحة الفلسطينية، وهو ما بدا واضحا في أحداث المواجهة بينها وبين كتائب القسام» .
ويشير صقر إلى سبب آخر غاية في الأهمية لانهيار هذه الأجهزة ذاتيا وهو عدم تعيين قائد عام لها قبل وقت كاف من المواجهة بصورة رسمية ، فلم يكن اللواء عبد الرزاق المجايدة الذي تولى مهمة قائد غرفة العمليات المركزية لهذه القوات لديه أي مرسوم رئاسي بأنه القائد العام لها، وهو ما أحدث بلبلة ولبساً لدى العديد من قادة هذه القوات، لأن البعض اعتبره مجرد مستشار للرئيس للنواحي الأمنية، والبعض الآخر كان غير مقتنع به كقائد، وكان الكثير منهم يلجأ للقيادات التنظيمية للحصول على الأوامر بسبب تسييس هذه الأجهزة، لذلك عندما سئل المجايدة في لجنة التحقيق الوطنية عن أسباب حدوث الهزيمة في ظل قيادته لغرفة العمليات المشتركة قال بالحرف: «أنا لست قائداً لأحد»، في إشارة إلى عدم استجابة قوات أمن السلطة لأوامره، مما يثير تساؤلا حول سبب بقائه في منصب مادام الأمر كذلك، وتحمُّله بالتالي وزر هذه المسؤولية الثقيلة.
وعند هذه النقطة يتحدث صقر في كتابه عن وجود قائد آخر كان ينافس المجايدة، هو محمد دحلان الذي كان يتدخل في إدارة المواجهة وهو لم يزل خارج قطاع غزة الذي خرج منه قبل الأحداث مباشرة بحجة العلاج وهي حجة لم تقنع الكثيرين، فقد كان دحلان يملك تفويضا كاملا وغير مسبوق لإعادة صياغة وهيكلة الأجهزة الأمنية من الرئيس عباس، واستغل هذه السلطة ليوجّه أوامر مباشرة للقوات دون الرجوع لغرفة العمليات المركزية، كما حدث في عملية إنقاذ القيادي في حركة فتح ماهر مقداد الذي كان منزله الشاغر من سكانه محاصرا من قوات الكتائب، وأمر دحلان وحدة النخبة بإنقاذه، وهي مهمة أكد جميع القادة العسكريين عدم وجود أي فرص لنجاحها، وهو ما تسبب في خسائر فادحة، انعكست على معنويات كل قوات الأجهزة الأمنية.
ويكشف صقر في سياق حديثه عن هذه المواجهة عن قفز الكثير من قادة الأجهزة الأمنية عن غرفة العمليات المركزية، وبعيداً عن رئيسها المجايدة والاتصال مباشرة بالرئيس عباس، وأخذ أوامر مباشرة منه، وهو ما زاد من فوضى قيادة المعركة، وانعكس سلبا على الأداء.
هذه الضبابية في القيادة صاحبتها ضبابية أكبر في خطة العمليات المركزية لهذه القوات، كما يوضح صقر، فأمام لجنة التحقيق الوطنية ادّعى بعض قادة الأجهزة عدم علمه بوجود خطة للعمليات، فضلا عن العيوب الكبيرة التي كانت في هذه الخطة، والتي بنيت على أساس الدفاع السلبي الذي لم يكن يتناسب مع حرب العصابات التي يتبناها القسام، وهو ما تسبب في جعل المقرّات الأمنية أشبه بالجزر المعزولة، وبالطبع لم يتم التدريب على هذه الخطة في أي وقت سابق، وبالتالي لم يتمكنوا من استخلاص العبر من أخطائها.
لكن صقر يشدد على أهمية عامل الحالة المعنوية لأغلب أفراد الأجهزة الأمنية التي كانت متدنية بسبب عدم تلقي أغلبهم للرواتب منذ فترة طويلة، بينما كان أفراد الأجهزة الاستخباراتية مثل الأمن الوقائي والمخابرات يتلقون رواتبهم، وهو ما أحدث تمييزا أثِّر على الحالة المعنوية لآلاف الجنود، بالإضافة إلى غياب التعبئة المعنوية لهذه القوات سواء استعدادا لمواجهة كانت بوادرها تلوح في الأفق أو أثنائها، مما أدّى إلى اعتقاد الكثير من الجنود بأن المعركة ليست معركته بل معركة ما كان يُطلَق عليه وقتها «التيار الخياني» ، كل ذلك سرّع في تفكك وانهيار الأجهزة الأمنية كما يرى صقر، والذي توقع هذه النتيجة المأساوية قبل أكثر من عشر سنوات على حدوث المواجهة، إلا أنه كوفيء على ذلك بالإساءة البالغة والاتهام بالجنون.
محطات في حياة مصباح صقر
بالرغم من كل الأحداث التي مرت ب « الرائد مصباح صقر « حتى حرب يونيو 1967، فإن السنوات التالية كانت أكثر إثارة وغموضا وخطورة، وهنا نعيش مع الرواية على لسانه : « في أواخر أغسطس عام 1967 استطعت الخروج من قطاع غزة عبر الأردن، ومنها إلى سوريا ثم إلى مصر، وهناك التحقت بالكتائب الفلسطينية التي تم تجميعها وتنظيم صفوفها داخل مصر من جديد بعد حرب يونيو 1967، كانت هناك حالة من الغضب تسود هذه الكتائب التي كانت وقتها ضمن «جيش التحرير الفلسطيني»، وتعالت الأصوات بضرورة بدء العمل المسلح داخل الأراضي المحتلة، وبعد نقاش داخل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي كان يرأسها أحمد الشقيري، اتخذت قرارا بتشكيل قوات التحرير الشعبية للمشاركة مع الفصائل الأخرى في المقاومة داخل فلسطين المحتلة، وفتح المجال لمن يرغب من الضباط والأفراد الفلسطينيين بالتطوع في هذه القوات، فكنت أول من سجل اسمه، وكلفت بتشكيل وتنظيم «قوات التحرير الشعبية» داخل فلسطين المحتلة وبخاصة في قطاع غزة الذي كان يوجد به بالفعل جنود يمكن الاعتماد عليهم بسبب تطبيق نظام التجنيد الإجباري بين شباب قطاع غزة قبل الحرب إلى جانب وجود أسلحة أشرفت على إخفائها وتخزينها بعد انتهاء الحرب مباشرة، لأنطلق على رأس أول مجموعة من الضباط الفلسطينيين العائدين إلى قطاع غزة باعتباري القائد العسكري لقوات التحرير الشعبية في قطاع غزة ،وكان برفقتي من الضباط الفلسطينيين المرحوم النقيب « نمر حجاج» ، وقبل السفر تم ترقيتي استثنائيا لرتبة الرائد ومنحت نوط الشجاعة.
رحلة العودة إلى قطاع غزة بدأت في سبتمبر 1967 جوا، فمن القاهرة توجه « الرائد مصباح صقر « إلى سوريا ، وهناك استطاع مع فريقه الاتصال ب « أبو جهاد «، وقام بزيارة معسكرات الفدائيين التابعة لحركة فتح، لتبدأ بعدها رحلة التسلل عبر الحدود السورية الأردنية للوصول إلى الأردن.
ويصف «صقر» هذه الرحلة بالشاقة، حيث تسللت المجموعة إلى مدينة «الرمثا» مشيا على الأقدام، ومنها إلى عمان حيث بدأت المجموعة تشعر بأن المخابرات الأردنية تتبعهم في كل مكان يذهبون له.
ويكمل : « كان هدفنا الأساسي الوصول إلى أحد الأدلاء الذين يمكن أن يقودنا إلى داخل فلسطين عبر الحدود الأردنية، وبصعوبة تعرفنا على دليل وافق على اصطحابنا ضمن مجموعة من اللاجئين الذين كانوا يرغبون في العودة إلى معسكر « عقبة جبر» قرب أريحا، وبعد رحلة اجتزنا فيها نهر الأردن وسرنا في الأغوار الفلسطينية، تواجهنا مع دورية إسرائيلية كبيرة، قامت باعتقال أغلب من كانوا معنا، وحاولت أنا وزملائي الاختباء داخل أحد النتوءات الجبلية، لكن الإسرائيليين كشفوا أمرنا وأطلقوا النار علينا، فاضطررنا بعد عدة دفعات من الرشاشات إلى تسليم أنفسنا، وأظهرنا هويات مزورة كنا نحملها وتثبت أننا مدنيون، ليتم اعتقالنا لأسبوعين كاملين في سجن أريحا لم تستطع فيها إسرائيل كشف هويتنا الأصلية، وأبعدنا بعدها للأردن من جديد، حيث بدأنا التحضير لرحلة دخول جديدة«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.