الموسيقى بنت الطبيعة، تجدها في تغريد عصافير، في خرير نهر، في هدير بحر، في حفيف أشجار وأجنحة طيور، في طرق ريح على نافذة وباب «مجوّف». الفضاء «معبّأ» بالموسيقى، سواء تلك التي تنتجها الطبيعة، أو تلك التي يصنعها الإنسان، ونحن نتعرّض كل لحظة، شئنا أم أبينا، إلى كمّ هائل من الموسيقى، التي أصبحت مكوِّناً أساسياً من مكوِّنات الحياة، بدءاً من منبّه الهاتف، الذي يوقظنا صباحاً، ونغماته في جيوبنا، والمقاطع التي تصلنا عبره، وشارة نشرة الأخبار، ومذياع السيارة، وإلى ما لا نهاية. في ظل هذا الكم الهائل، الذي نتعرض له من الموسيقى، لا شك في أن محاصرة المستمع لها بالتحريم والتأنيب، ستُشعره بأنه محمَّلٌ ب «ذنوب طائلة»، وستدفع به إلى طريق اللاعودة، التي ربما تأخذه إلى طرق أكثر ضلالاً وحرمة من طريق الموسيقى، التي يحاول محرِّموها ثنيه عن سلكها. في علم النفس، هذه الجزئية بالغة الأهمية، فالتأنيب المتكرر والمبالغ فيه، ينتج عنه كثير من الأمراض النفسية، لما له من تأثير في زيادة الضغط على الجهاز العصبي، وهذا الضغط المستمر يؤدي إلى نقص مادة السيروتونين، ما يسبِّب اضطراباً في مراكز التفكير والمشاعر. لست هنا بصدد الحديث عن تحريم الموسيقى أو جواز الاستماع إليها، فهذا مبحث خلاف قائم منذ قرون، لكنني أستغرب تهويل أمر تحريمها في ظل ما سبق، وهو أمر فرعي خلافي، فيما أمور أصلية دينية ودنيوية مهملة! نحن في زمن يستوجب التعاطي مع الواقع المعاش، لا أن نحاكم الناس بما يفترض أن يكون. يجب عدم استسهال التضييق على الناس ل «أطرهم على رأي واحد في أمر خلافي»، بما يفاقم سطوة التأنيب عليهم، الذي ربما يدفعهم إلى الزهد بالحياة، والتفكير بمغادرتها، وما أكثر «وكلاء السفر» المتربصين، الذين سيقدمون لهم كل لوازم السفر مجاناً! والكارثة أن «المسافر» لن يغادر لوحده، بل سيأخذ بعضاً منّا قسراً رفقاء في رحلته الأخيرة!