جاء في لسان العرب لابن منظور «الحضور نقيض المغيب والغيبة، حضر يحضر حضوراً أو حضارة»، والحضر خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، والحاضر المقيم في المدن والقرى، والبادي من البدء أي الظهور، الذي نراه بادياً، ونشاهده بالعين المجردة أمامنا، وهو المقيم في البادية المكشوفة للرؤية بحكم طبيعتها الصحراوية. وفي «دائرة معارف القرن العشرين»: الحضارة خلاف البداوة، وهي كلمة مرادفة لكلمة المدنية. وفي «معجم متن اللغة»: الحضارة ضد البداوة والإقامة في الحضر هي الطباع المكتسبة من المعيشة في الحضر أي المدن. والحضارة عند ابن خلدون هي غاية العمران، ونهاية عمره، وأنها مؤذنة بفساده، والحضارة عند ألبرت إشيفيتسر هي «التقدم الروحي والمادي للأفراد والمجتمعات على حد سواء»، وقد استخدمت كلمة الحضارة عبر التاريخ بمعانٍ ودلالات مختلفة، وتعرضت لكثير من التحوير والتطوير والتغيير بما يواكب السياقات التاريخية في العصور المختلفة، وأول الحضارة هو الإحساس بالخوف من عاقبة الاعتداء على الآخرين، ومن الضرر الذي يصيب الإنسان من اعتداء الآخرين عليه، وهو الخوف الذي نعبّر عنه بالضمير، والوازع، ومخافة الأذى والضرر جراء القيام بما صار اسمه، بعد عقود لا تحصى من الزمن، حراماً وعيباً وممنوعاً، غير أن هذا الإحساس الغريزي بالخوف يتحول فيما بعد إلى إحساس بالتميز، والاختلاف، والتفوق بين «نحن»، و«هم»، نحن المتحضرون، وهم المتوحشون. ومن هذه الرغبة في التمييز بين نحن، وهم، ظهرت فكرة الشعب المختار عند اليهود، إذ إن الفكر اليهودي منذ بدء التاريخ قسَّم العالم إلى «أنا، والأغيار اليهودي، والحوييم»، وهذا الأخير لا يمكن له أن يفهم التوراة ووصاياها. وقد كانت روما المسيحية عند القديس أوغسطين هي «مدينة الله»، مقابل مدينة الشيطان البابلية المدنية الأرضية، المدنية السياسية المدنسة، واعتقد الفرس أنهم وحدهم أهل الحضارة وصُنَّاعها مقابل العرب المتوحشين، وقد جاء الإسلام ليساوي في بداية أمره بين جميع بني البشر إلا بالتقوى، إذ لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، «والناس سواسية كأسنان المشط»، فالإسلام دين عالمي موجَّه إلى الناس كافة، قال تعالى «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» الأنبياء الآية 107. «وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً» سبأ الآية 28. على عكس الدين اليهودي، الذي اكتسب صبغة قومية متزمتة منذ بدايته، إذ اعتقد اليهود بأنهم وحدهم الذين اصطفاهم الله لتبليغ كلمته إلى سائر الشعوب الأخرى، وكان لهذه الفكرة العنصرية أثر كبير في التمييز بين نحن، وهم، بين أبناء الله، وأبناء الشيطان، بين المتحضرين والمتوحشين. واعتقد أهل الصين، في بداية العصور الحديثة، أنهم «أبناء السماء»، في حين يعتقد الهنود بأن السر الإلهي قد حلَّ فيهم، وأن «النرفان» هي طريق خلاص الروح من الجسد. في الواقع، إن ظاهرة التمركز حول الذات لم تقتصر على شعب من الشعوب، بل يمكن ملاحظتها عند كل المجتمعات، فكل إنسان يرى نفسه مركز الكون، وكل جماعة ترى نفسها بداية ونهاية التاريخ وخاتمته، وقد كانت الحضارة العربية الإسلامية في أوج ازدهارها وتفوقها في القرنين الثالث والرابع الهجري، والإحساس المتعاظم بالقوة والتميز حفَّز بعض الكتَّاب على الاعتقاد بأن العرب هم أفضل الشعوب، وأنهم «المتحضرون»، بينما الآخرون «عجم متبربرون»، حيث يعلن ابن مسكويه «بأن الأتراك والعجم هم أشبه بالقرود والخنازير». وفي اللغات الأوروبية ظهرت كلمة حضارة في ستينيات القرن السادس عشر في فرنسا من قِبل بعض المحلَّفين الفرنسيين أمثال: جان بودان، ولويز لوروا، بمعنى تحضر وتهذيب «Civilite Civillse»، وهي تصف الناس الملتزمين بالعمل وفق أشكال سياسية معينة، وتكشف فنونهم، ووسائلهم عن درجة من الكياسة والسمو، ويعتبرون أخلاقهم وسلوكياتهم أرقى من أخلاقيات وسلوكيات غيرهم من أبناء مجتمعهم، أو المجتمعات الأخرى. وقد كان الاعتقاد السائد في الغرب حتى أواخر القرن التاسع عشر أن الحضارة هي أوروبا، وأن التاريخ قد انتهى مع الإمبراطورية البريطانية، وأنه لم يعد هناك شيء جديد يمكن إنجازه في التاريخ. مثل هذا الاعتقاد يظهر اليوم عند الإمبراطورية الأمريكية المنتصرة، حيث يُنهي فرانسيس فوكوياما، التاريخ، ويذهب هنتنجتون إلى القول إن الحضارة هي أوروبا وأمريكا، في مقابل العالم غير المتحضر الباقي، حسب تعبيره: «الغرب والباقي قضايا تداخل حضاري» عنوان الفصل الثامن من كتاب «صِدام الحضارات».