لم يسبق قط أن نوقش مفهوم اللاهوت السياسي علناً في المجتمع الإسلامي. اللاهوت السياسي أو (التوحد الديني) طريقة قديمة لتسيير دفة الأعمال والمهام السياسية نشأت في العصور القديمة من قبل الإغريق والرومان. وتعرف بأنها تمارس باسم المعتقدات الدينية التي تستند الى المذاهب الأهلية لتحديد وتبرير ممارسة السلطة السياسية. وهذا حصل لتبرير كيفية ممارسة السلطة السياسية للتحكم في حياة ومصير الشعوب. إلا أن المعتقدات الدينية وعبادة الله وممارسة الشعائر كانت على مر التاريخ في تغير مستمر. فقد عبرت عن تطور المجتمعات ووعيها الاجتماعي، أما في ثقافات الشرق الأوسط فجمدت هذه المعتقدات الدينية التي تتعلق بعلاقة الإنسان بالله في مكانها من دون تغيير، ولم تتكيف مع التغيرات العالمية العصرية. في الديانات مثل اليهودية والمسيحية والإسلام، ينظر الى الله بأنه خالق الكون، وبالتالي فهو مصدر السلطة على الطبيعة والإنسان. إلا أن هذا التفكير لا ينطبق على جميع الحضارات في العالم. ففي الصين مثلاً، كان يعتقد أن الإمبراطور هو الإله وأن الآلهة الأخرى خلقت فقط لتريح الناس من سلطات الإمبراطور. كما وصلت اليونان في معتقداتها الى نقطة قررت فيها تجريد الآلهة من سلطاتها السياسية، فأصبح الاعتقاد السائد عندها أن الإنسان هو فقط من يمكنه ممارسة السلطة السياسية على أخيه الإنسان. وهناك صور متنوعة للرب تختلف باختلاف الثقافات نذكر منها: التوحيد، أي أن الله والطبيعة شيء واحد، كقوة للزمان والمكان في العالم. وهناك «الإله البعيد الذي لا يرى» الذي يعطيك ظهره ويخفي وجهه عنك (الإيمان بالله الواحد الأعلى)، وهو رب العبرانيين الذين يعتقدون أن الله فقط هو الله الذي لا اله غيره، فهو القادر على خلق الكوارث والمصائب وقادر على مكافأة الآخرين من دون حاجة الى تفسير أو شرح. ووفقاً لادعاءات اليهود جعل الله نفسه معروفاً لبني إسرائيل من خلال المواثيق والشرائع السماوية التي نزلت على أنبيائهم. وهذا الوحي الديني يعتبر المصدر الأصلي للاهوت في سياسة العالم الذي يمارس في الإسلام والمسيحية. وفي ما يتعلق بالمسيحية كان القديس أوغسطين أول مسيحي مارس اللاهوت في سياسة العالم المسيحي آنذاك. أيضاً كتب القديس توما الاكويني في القرن الثالث عشر «خلاصة اللاهوت» والتي حدد فيها وفي شكل مفصل العقيدة المسيحية السياسية واعتقد أنها وصلت الى حد الكمال. واعتبر الحكام المسيحيين أنفسهم وحكوماتهم أنهم ينفذون مهامهم نيابة عن الرب بمساعدة السلطات التي تتمتع بها الكنيسة والذين تميزت رسالتهم المسيحية بخليط من التعصب الأخلاقي لأنبياء اليهود والإيمان بيوم الآخرة. بعبارة أخرى، فان المسيحية تحاول أن تفرض على الإنسان ما معناه: أبانا الذي في السموات. «ليتقدس اسمك. ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك... كما في السماء كذلك على الأرض». فهكذا وعلى مدى أكثر من ألف سنة سببت الديانة المسيحية خلق نزاعات وصراعات بين المؤمنين وغير المؤمنين. ففي ألمانيا خلال القرن السادس عشر قرر القرويون بالتعاون مع بعض من اعلنوا أنفسهم سياسيين لاهوتيين ترويج بعض الأفكار التوراتية في شكل مواد أدبية مليئة بالخوف والتخويف والكراهية والحقد والقسوة، وطلبوا من الناس اتباع كلمة الله فقط والتخلي عن أي نهج آخر يدعو الى المنطق والعقلانية. وفي عالمنا اليوم، في بلدان الشرق الأوسط، نجد انه كلما حلت أزمة أو معضلة سياسية توجه الجميع الى الله بالدعاء ليرشدهم الى الصراط المستقيم أو يهديهم الى الحل السليم. هذا هو مفهوم اللاهوت السياسي الذي جلب الخير والشر للبشرية، إلا أنه جلب الشر أكثر مما كان متوقعاً. وتشير الأحداث الأخيرة أن ممارسة اللاهوت السياسي في أمور العدالة والحرب والسلام، تشهد على حقيقة أنها جلبت نتائج مدمرة للوطن والمواطن. فابتداء من إنكلترا قبل أربعمئة عام، وانتهاء بألمانيا في القرن العشرين، تورطت أوروبا في معارك طاحنة في ما بينها، كل يطعن في كيفية تطبيق الآخر لشريعة ومبادئ البنيان السياسي المستوحى من الدين. وكانت النتائج أن أوروبا نجحت في تطوير نظام سياسي لم يرقْ للسلطات الدينية، حيث خلقت نظاماً ديموقراطياً وعلمانياً فصل سلطات الدولة عن السلطات الدينية. إلا أن هذا التغيير لم ينتقل الى الدول الأخرى بما فيها دول الشرق الأوسط، حيث وفر نظام اللاهوت السياسي القديم ثقافة قانونية للاحتكام إليها في الحياة الاجتماعية للسكان من دون أن يجري عليها أية تطورات تتماشى مع الحياة العصرية. وعليه فان المآسي والاستبداد والحرمان من التطور لخلق حرية التعبير والتسامح الديني واحترام الأديان الأخرى وضبط النفس جعلت شعوب المنطقة في عام 2001 وكأنهم يعيشون في القرون الوسطى. وبسبب سيطرة المعتقدات الدينية على النظام السياسي تجد الحكومة تخاف من الشعب والشعب يخاف من الحكومة، فلا يوجد تسامح ولا أمان ولا استقرار حيث يسود العنف والتحجر الفكري والعقائدي. وهناك دروس مستفادة من الأحداث الدموية التي عانت منها أوروبا في نضالها للوصول الى مجتمع متحضر، وأحد هذه الدروس هو تبني عالم سياسي كالذي يوجد في عالمنا اليوم، والدرس الثاني أن تطبيق اللاهوت السياسي يعرقل ويمنع تحقيق أية إصلاحات قد تساعد على توفير حياة كريمة للآخرين. فأوروبا المسيحية لم تكن لتتمكن من إحداث أية إصلاحات أو تخلق أي تطور حضاري لو قبلت بتبني الدين مرجعاً في بنيانها السياسي لحكم الشعب. لقد حان الوقت لتلك السلطات الحكومية في الشرق الأوسط أن تتعلم بأن الحياة السياسية يجب أن تكون فقط مرجعاً للإنسان وأن الأديان والعبادة شيء شخصي وخاص بالإنسان بينه وبين ربه. فعملية فرض الدين تخلق التعصب والكراهية والحقد والعنف. فإذا ما أراد الإنسان تبني الإصلاح في مهامه المدنية متخلياً عن الاعتبارات العاطفية والعقائد الدينية عندها فقط سوف يصبح إنساناً فاضلاً وتنتهي عملية الصراع على السلطة الى الأبد. وعندها فقط تتحرر قدرات الإنسان وإمكانياته ليصبح منتجاً ويتطور ليخرج من النطاق الاجتماعي الضيق كما تمتد الأيادي الى العالم المتحضر وتتلاحم معه. وعندها فقط سيجد الإنسان السلام، والأمان والاستقرار من دون أن يكون خائفاً ذليلاً منبوذاً من المجتمع الدولي، ما يخلق عنده شعور الانتقام. * كاتب لبناني