أنا الآن أصوم رمضان وأصلي التراويح في مدينة الجديدة المغربية والجو بارد لا يكاد يصدق، كلما تقدم الصيف والحر انتعشت المدينة ببرد وهواء لطيف، وحين أستعيد ذكرياتي في رمضان أتذكر سوق مدحت باشا في دمشق. إنه سوق مواز لسوق الحميدية الشهير، لم أعرف لماذا سميت المنطقة بالحريقة. في غالب الأمر يعود إلى حريق نهش المنطقة. من تبرع لنا في المسجد في هذا السوق المغلق ليلا كان صديقا حميما اسمه (عرفان عبيد). والده يشتغل في تجارة العقالات بشكل رئيس. الآن أصبح طبيبا مرموقا في أمريكا. حين تعرفت عليه كان الطالب الثاني في البكالوريا على كل طلبة سوريا، أظن أن مجموع علاماته كان 254 من 260؟ بعد شاب آخر مميز هو (محمد زهير القاوي)، وكلا الرجلين أصبح طبيبا مرموقا مع شلة مميزة، وممن أذكر أيضا الدكتور (خالد أبو غيدا) الذي اختص في فن الأورثوبيديا في بريطانيا، ورجع وافتتح عيادته في جدة بعد عمله في مشفى بقشان؟ حتى وافته المنية، وكنت أنا من سعى في تزويجه، وقد أصبحوا عائلة رائعة سعيدة، وكان الرجل تقيا نقيا رائعا في المعاشرة، عليه شآبيب الرحمة، وممن تعرفنا عليه ذلك الطبيب من دير الزور (تيسير عطية الحصاد) الذي وافته المنية بعد نجاحه في الامتحان الأمريكي (ECFMG) ووصوله أرض اليانكي. قيل إنه قتل في ارتطام سيارته بقطار. كما أذكر منهم التقي النقي (سعيد الحافظ) الذي اختص في علم النفس العلاجي على ما بلغني، و(ربيح سنان) الذي كان مثال الروح الفكاهية، وكان يعمل في شركة خاصة بهم في الحافلات، لنقل الركاب إلى مصايف دمشق: بقين والزبداني ومضايا، وله أخ اشتهر طبيبا جراحا في دمشق، اختص في ألمانيا وساعدني جزاه الله خيرا في مراسلاتي مع الجرمان، وله حاليا مشفى في دمشق باسم مشفى سنان على ما أذكر، والشاب الضحوك المرح المهندس الأنيق الجميل (حسان جلمبو) الذي أذكره برموش عينيه الرائعة وذكائه المتقد، وهو من أفهمني سر الطيران وكيف تطير الطيارة، كما أنني حفظت عنده على ظهر بنايتهم الأنيقة في حي الشعلان سورة يونس، وكل سورة لها طعم خاص وذاكرة لا تنسى، فعند المسجد الكبير في القامشلي حفظت سورة آل عمران، وفي البرية من الربيع وأنا طالب في الصف الثامن حفظت سورة مريم، وأنا طالب في الصف التاسع حفظت سورة (فصلت) وكانت مطلوبة في المنهج، ولم يكن هدفي قط حفظ كامل القرآن لأن المشكلة في القرآن هي الحفاظ عليه، وأكثر من حفظه تدبره، لذا قالت الآية (يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به). الرائع المهندس (حسان جلمبو) قضى نحبه في سجن تدمر الرهيب على ما بلغني، ومن مات في ذلك السجن هم عشرات الآلاف من خيرة الشباب في سوريا، ومما نقل لي (قاسم الططري) أستاذ الجغرافيا الذي كان يردد: نحن في عالم البرزخ فلنستعد للآخرة. وأذكر منهم ذلك الشاب التقي الطبيب الرائع من حمص (توفيق دراق) الذي اختص في الأمراض العصبية في كندا، وهو صهر الشيخ الفاضل في حمص (عبد العزيز عيون السود) رحمة الله على الاثنين. وتعرفت عليه فيمن تعرفت عليهم في حمص، وكان حافظا فقيها نقيا وإمام مسجد خاص به. وأذكر الطبيب دراق جيدا حين اتصل بي في ألمانيا حين كنت اختص في الجراحة، وهو كان قد بدأ في اختصاصه بالأمراض القلبية وقال لي في رسالته إن أساتذتنا لم يكونوا يعلموننا ربما حتى لا ننافسهم حين نتخرج؟ وكانت منيته في تلك الليلة المشؤومة حين جاءت 17 من الحوامات فقتلوا في ليلة واحدة من 900 إلى 1100 من خيرة مثقفي سوريا واختصاصيهم عليهم رحمة الله جميعا. إنها دفاتر الذاكرة.