كان عالم الأرصاد الأمريكي «إدوارد لورنتز» يُمارس مهامه اليومية عبر القيام بعمليات حاسوبية تمكنه من التنبؤ بحالة الطقس. واختصاراً للوقت، بدأ في أحد الأيام، بتحليل البيانات انطلاقاً من المنتصف وليس من البداية كما كان يفعل كل يوم، عندها وجد أن الكومبيوتر بدأ يعطي توقعات عن الطقس بصور مغايرة عن تلك التي كان يعطيها عندما كان يحلل البيانات بشكل كامل. وبالتالي توصل لورنتز إلى أن إجراء تعديل بسيط على المعلومات الأولية قد يؤدي إلى نتائج غير نمطية لا يمكن التبوء بها على المدى البعيد. من هنا كانت البداية الفعلية لاستخدام نظرية الفوضى أو الشواش (Chaos Theory) في علم الأرصاد قبل أن تتوسع إلى مجالات علمية وفلسفية أخرى. وظهر تبعاً لذلك مفهوم “تأثير الفراشة” أو (Butterfly Effect) والذي يقول إن رفيف جناحي فراشة في الصين قد يؤدي إلى أعاصير ورياح هادرة في نيويورك، ولأجل ألا نأخذ القارئ إلى أبعاد رياضية وفلسفية معقدة، فإن ما يهمنا هنا هو كيفية استخدام هذه الأطر النظرية لتفسير سلوك الفرد العربي وكيف أمكن التأثير في هذا السلوك على مدى خمسة عقود مضت وحتى اليوم. كان العالم ينظر إلى المجتمعات العربية على أنها مجتمعات نمطية غير قابلة للتغيير، ولعل ما هو أسوأ من هذه النظرة هو تداول هذه القناعة بين فئات كبيرة من الشعوب العربية لسنوات طويلة. ولا أحد يستطيع إنكار الدور الذي لعبه تحالف القوى الخارجية المهيمنة مع الحاكم العربي المزروع في ترسيخ هذه القناعات لدى الشعوب، وتصوير الإنسان العربي الأصيل ككائن هلامي لا وجود له إلا في كتب التاريخ والأدب والتراث، ومن أبلغ ما يصور هذا المعنى بيت نزار قباني: أنا يا صديقةُ متعبٌ بعروبتي — فهل العروبة لعنةٌ وعقابُ من هنا اقنتص الحاكم العربي الفرصة للظهور بمظهر القائد المخلّص الذي سيعيد للأمة مجدها المسلوب ويصون جنابها من تدنيس الأعداء مستعيناً بهذه القناعة للإمساك بزمام الأمور أطول فترة ممكنة، لكن هذه القناعة لم تدم طويلاً إذ لم تستمرئ الشعوب ظلم حكامها فكانت الثورات، وكانت معها وسائل التواصل الاجتماعي عامل نجاح مهم أسهم في تنسيق نشاطات الثوار ونقل أحداث الثورة إلى العالم على مدار الساعة. وكتطبيق عملي لنظرية الفوضى على واقع الشعوب العربية، قبل وبعد الثورات، فإنه يمكن القول إن التطور السياسي المحلي في العالم العربي لم يتغير بشكل كبير قرابة نصف قرن، بمعنى أن المواطن العربي ظل يعاني من سياسات محلية رتيبة ملؤها الاستبداد والتهميش والقمع، ولعل الخوف من القادم – الذي ربما يكون أسوأ – وترسخ قناعات الانهزامية والانقياد كانتا من أبرز العوامل التي قاومت التغيير السياسي، ولأن النفس البشرية تميل إلى نبذ الرتابة والنمطية فضلاً عن الخنوع والاستعباد، بدأ الناس في التململ من تلك السياسات وأخذ مستوى الوعي لدى المواطن في الازدياد، وعندما بدأت الشعوب في مقاومة تلك الرتابة عملياً ظهرت نتائج غير نمطية وتغييرات سياسية ربما لم تكن في حسبان الثائرين أنفسهم، كما أن تراكمات الظلم والاضطهاد وضياع الحقوق كونت لدى المواطن العربي طموحاً قوياً نحو تحقيق الأفضل. لعله من نافلة القول أنه لم يكن لتلك الحركات المناهضة أن يحالفها النجاح لولا وجود عنصرَي التنظيم ووضوح الرؤية، إذ أن فرص النجاح والفشل قد تتساوى في العمل غير المنظم طبقاً لنظرية الفوضى، بل قد تظهر نتائج نهائية غير مرغوبة في أي مشروع اعتباطي، مما يضطر صاحب المشروع إلى الرضوخ والاستسلام دون تحقيق مقاصده. اما على الصعيد الشعبي، فإن العمل العشوائي غير المدروس قد يُفقد احترام العامة وتقديرهم، وبالتالي دعمهم وتأييدهم، حتى وإن كان المقصد من العمل سامياً وشريفاً. علاوة على أن وضوح المطالب والغايات من التغيير، يلعب دوراً هاماً في استمالة العامة تجاه المشروع، بقي أن نشير إلى أن الاضطرابات التي يحاول بعض المواطنين إثارتها بين الحين والآخر في المنطقة الشرقية إضافة إلى قيام مجموعة من صغار السن بالتجمع أمام إحدى بوابات «الجنادرية» ما هي إلا أمثلة حية على العمل الفوضوي والعشوائي غير محسوب النتائج.