خلال القرن العشرين تطورت العلوم من خلال ثلاث نظريات علميّة بحتة هي النظرية النسبية ونظرية الميكانيكا الكمية ونظرية الفوضى. ونظرية الفوضى Chaos theory التي تعرف أيضا بنظرية الأنظمة الديناميكية غير الخطيّة nonlinear dynamical systems theory ، وبنظرية الشواش، وبنظرية العماء، وبعلم الفوضى chaology وبنظرية الكابوس واحدة من هذه النظريات العلمية الثلاث المهمة التي تؤثر منذ انبثاقها خلال السبعينيات من القرن المنصرم على تقدم كثير من حقول المعرفة ومن بينها الأدب. وبالإضافة إلى تطبيقاتها العلميّة تنبع أهميتها من أنها أصبحت خلال العقود الأخيرة سمة بارزة في كيفية رؤية الكتّاب، كتّاب الأدب، للعالم وما يحكمه من قوانين مرئية وغير مرئية، وما يسوده من أحداث قد لا يبدو لها تفسير ظاهر. وأهم ما يميزها مبدأ أن للفوضى قانون، أي قانونية الفوضى. أي أن نظرية الفوضى تهدف إلى توضيح حقيقة أن تفسير النتائج المعقدة وغير المتوقعة ممكن في الأنظمة عند النظر لبداياتها. أي أنه من الممكن أن يؤدي تغيير بسيط جداً في بداية نظام إلى حدوث نتائج غير متوقعة وأحياناً عنيفة عن طريق التسبب في إطلاق سلسلة أحداث تتنامى أهميتها باستطالة السلسلة. وهذا المنظور يعطي أهمية كبيرة لما في بداية العمل الأدبي من أحداث تؤثر على استمراريته وبالتالي نجاحه أو اقبال القارىء عليه. وقد ابتدأت نظرية الفوضى بداية علمية بحتة في مستهل الستينيات الميلادية من خلال أعمال المتخصص بالأرصاد الجوية إدوارد لورينز Edward Lorenz الذي قام بإدخال أنماط حركة الطقس في حاسوب محدود الذاكرة يعمل على تحليل البيانات من خلال أرقام ذات ست منازل عشريّة، وتلك الحواسيب، لتوفير المكان، لم تكن تُظهر في الرسوم البيانية إلا المنازل الثلاث الأولى مغفلة الثلاث الأخيرة. لقد قام لورينز أولاً بإدخال بيانات لتخطيط رسوم بيانية لها مكونة من سلسلة من اثنتي عشرة معادلة مستعملاً في عملية الإدخال كل المنازل العشرية الست، ثم ترك الحاسوب ليتعامل مع تلك المعلومات. وبعد فترة عاد لتشغيل البرنامج لاسترجاع تلك الرسوم البيانية، ولكنه بدلا من أن يبدأ بالمعادلة الأولى بدأ من منتصف السلسلة مدخلاً منازل الارقام الثلاثة الأولى فقط فوجد أن هناك تغيّراً كبيرا حيث حدث تباعد ثم انحراف كبير في الرسوم البيانية. وقد استوعب لورينز السبب، وهو وجود اختلاف بسيط جداً في البيانات المعطاة عن البيانات المخزنة تمثّل في غياب منازل الأرقام الثلاثة الأخيرة معتقداً أن الفرق الذي يمثل واحدا من ألف ليس ذا أهميّة، ولكن ذلك الاختلاف البسيط تطور مع تطور تسلسل البيانات مؤدياً إلى اختلافات كبيرة بدت على شكل انحراف واضح، أي وجود اضطراب وحركة غير خطيّة وغير متوقّعة. وعندما طبع تلك الرسوم البيانية بدت على شكل فراشة، ومن هنا جاء أحد أهم معالم هذه النظرية وهو: "تأثير الفراشة." فالخطأ الحسابي البسيط كان كلفحة هواء بسيطة، ولكن تلك اللفحة يمكن أن تتنامى لتُحدث إعصاراً. وقد نشر لورينز بحثاً عن ملاحظاته عنوانه: "التوقعات: هل يؤدي رفيف جناحي فراشة في البرازيل إلى حدوث إعصار في تكساس؟" ومن ذلك العنوان بقي تأثير الفراشة حاضراً إلى اليوم في تفسيرات النظرية. ثم تلقف حقل الرياضيات أعمال وملاحظات لورينز التي تفسر ظاهرة الاتجاهات غير الخطيّة التي تستعصي على التفسير الكمي. ثم اجتمعت العلوم والرياضيات والحاسب الآلي من خلال هذه النظرية للخروج بنتائج مبهرة من خلال الوصول إلى أشكال هندسية تسمى انكسارات fractals تتكرر وتتشابه مهما اختلفت موازين أو مناظير ملاحظتها، وتمثل الغيوم مثالاً جيدا للانكسارات تفسر كثيرا من الأمور التي كانت تخفى من قبل. وتتمثل أبرز سمات النظرية باختصار شديد في: (1) الأهمية الشديدة لانطلاقة البداية، حيث يمثّل التغير الطفيف فيها بداية لاتجاه وحجم المتغيرات المتوقعة. (2) تعقيد النظم وعدم قابلية استعادة مكوناتها، فلا يمكن في الأنظمة المعقدة أن يتكرر محتوى ما مرتين، فمهما تشابهت الظروف إلا إنه تبقى هناك تغييرات طفيفة. (3) وجود جواذب غريبة، أو ما يدعى جزر الاستقرار، وفي المعادلات قد يكون الجاذب نقطة ثابتة أو مجموعة من النقاط أو عددا لا محدودا من النقاط أو مدارا معقّدا. ويعتقد أن في كل نظام جاذبا أو أكثر، وهذه الجواذب تغيّر الأنظمة بمرور الزمن اعتماداً على نوع القوى، اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية الخ.، التي يتعرض لها النظام. (4) وجود أشكال كسرية fractal forms تمثل وحدات من كل النظام، ويمكن تحليل أي وحدة من خلال علاقتها بسمات النظام ككل. (5) التشعب، وهو انبثاق حلول مختلفة لمعادلة نظام غير خطي عند ازدياد تعقيده. وعادة ما يعتبر التشعب مصدرا إبداعياً. وقد ابتدأ الاهتمام بنظرية الفوضى واحتمال تطبيقاتها في الأدب أولاً مع انتشار مؤلفات تشرح النظريّة من وجهة نظر علمية بحتة مثل كتاب: "نظام ينشأ من الفوضى: الحوار الجديد للإنسان مع الطبيعة Order out of Chaos: Man's New Dialogue with Nature" الذي صدر عام 1984م. وكتاب: "الفوضى: علم جديد Chaos: Making a New Science" من تأليف جيمس جليك James Gleick الذي صدر عام 1987م. وإلى هذا الكتاب يعود الفضل في إخراج هذا "العلم الجديد" من الحيّز الضيق نسبياً للتطبيقات العلمية إلى الفضاء الرحب الذي يشمل العلوم الإنسانية كافّة. وقد صدر أخيرا هذا الكتاب مترجماً إلى العربية عن دار الساقي تحت عنوان "نظرية الفوضى: علم اللا متوقع." ثم تعزّز الاهتمام بالنظرية مع صدور كتب مثل كتاب: "علم ونظام جديد ينبثق من الفوضى New Science and Order out of Chaos ". وكتاب: "نظرية الفوضى في العلوم الاجتماعية: أساسيات Chaos Theory in the Social Sciences: Foundations" الذي صدر عام 1996م. ومثل هذه الكتب ترى نظرية الفوضى على انها ثورة في العلوم الفيزيائية، تتحدد ملامحها من خلال تعارضها مع الإرث العلمي الغربي التقليدي الذي يقوم على الاستقرار والنظام. فهي مع سابقتيها: النظرية النسبية ونظرية الميكانيكا الكمية تمثل مجتمعة ضربة للإرث العلمي الغربي التقليدي. كما تمثل أيضاً تطوراً لمفهوم علمي عالمي يشمل المكتشفات العلمية للقرن العشرين. وهذه النظرة الشمولية تؤكد أن ما يبدو كفوضى ليس كذلك فهو عبارة عن نظم معقدة وغير متوقعة يمكن تفسيرها وإيجاد أنماط لها عن طريق ملاحظة بداياتها. والفوضى من هذا المنظور ليست منتشرة في الطبيعة فقط ولكنها (أي الفوضى) ضرورية لتنامي التعقيد في الكون. وتقوم صلة نظرية الفوضى بالأدب على أن هناك تشابها قويا بين الفوضى كمفهوم وبين ما بعد الحداثة كمفهوم إلى درجة اعتبار المفهومين نموذجين متوازيين زمنيا ونظرياً. كما تقوم الصلة أيضا على أن الأنظمة الاجتماعية والخيالية التي تتناولها الدراسات الإنسانية قابلة للمقارنة بالأنظمة التي تدرسها العلوم.