يعود الطفل من مدرسته ضاحكاً مستبشراً؛ ثم يقف أمام أمه متهيباً سؤالها اليومي المعتاد عما فعله في المدرسة. يحاول إخفاء بعض التفاصيل وتمويهها بالكذب البريء والنسيان المفتعل، ولكنها تفاجئه بالحقيقة الأسطورة: لا تكذب علي لقد أخبرني «امذباب امعور» بكل شيء.. ينهار الطفل ويعترف بكل التفاصيل التي أخفاها بعناية؛ إذ من هو الذي يستطيع مقاومة عيون هذا الذباب الأعور الملعون؟!! في مصر الأسطورة نفسها تتكرر، ولكن بشكل آخر؛ إذ تقول الأم لطفلها كي يعترف بالمزيد لا تكذب علي (العصفورة قالت لي).. بينما يبقى صغار الصف الأول الابتدائي هنا وهناك عرضة للاستجواب والعصر والاستدراج لقول كل شيء للأم الحريصة، وبالطبع تتغير المصطلحات والحيل وتتنوع كي يبوح الصغار، ولكن تبقى الأم هي الأم في كل مكان. لكن من الذي أوحى للأم في جنوب المملكة وربما في غير جنوبها أن الذباب أعور؟ كيف تفتق ذهنها القروي البسيط عن اختراع هذه الأسطورة اللذيذة كي تستحلب الحقائق من طفلها خوفاً عليه ولكي يبقى في زمن ضعفه تحت سمعها وبصرها؟ ومن الذي أخبر الفلاحة المصرية أن العصفورة تتكلم وربما تتجسس على الأطفال؟ اسألوا قلوب الأمهات يخبرنكم كيف يصنع الحب مبرراته وحتى أكاذيبه المباحة! ربما أن «امذباب امعور»، والعصفورة قالت لي؛ هما خلاصة وحي التجارب التربوية لدى أمهاتنا الطيبات في الزمن الذي يوصف أبداً بالزمن الجميل، وربما أن لكل أم حكايتها الخاصة مع طفلها.. لكن المؤكد أنهن كن ألطف وأرق بكثير من بعض أمهات اليوم؛ أقول من بعض وليس من كل.