ولّى موسى وجهه شطر المسجد، ولوّح بيديه على غير عادةٍ، مودعاً أهله «في أمان الله».. وكبر مع المصلّين، «الله أكبر».. وركع؛ لكنه لم يكمل ركوعه.. سجد جسده المسجى يعانق أرض محرابه؛ حتى رفع المؤذن صوته: مهلاً.. أيها المفجر دع موسى يكمل صلاته، يطوي سجادته، يمسك مسبحته… موسى يطيل سجوده، رئتاه لا تستجيبان، الدم يسيل .. موسى استشهد..؟! والشهيد موسى جعفر آل مرار، المهندس الزراعي الذي قضى شهيداً في أحب الأماكن إلى قلبه، بين تلاوة آيات، وترانيم أدعية وبسملة، اغتسل آخر غسل جمعة له، وتطيّب بأطيب طيبه وذهب للصلاة ولم يعد إلى منزله. ويقول عنه صديقه الدكتور محمود الخميس، إنه كان ابن الزراعة البار، عمل في وحدة وقاية النبات بالإدارة العامة لشؤون الزراعة بالمنطقة الشرقية، محباً للناس، وبذل كل وقته في توجيه المزارعين والمهتمين بالأشجار، والمزروعات وطرق وقايتها، يملك سمعة طيبة بين أحبائه وزملائه، ومن المخلصين في أداء عمله يتمتع بكل خصلة من خصال الطيبة، والأخلاق الحميدة. ويضيف الخميس أن صديقه كان يتمتع بالخبرة الواسعة والعلم الغزير في تخصصه، وأحد رواد الزراعة العضوية ومن الكفاءات الوطنية، وله فن خاص في التعامل مع الناس، فضلاً عن أنه كان مساهماً في الخير وصبوراً، وتنطبق عليه سمو المعاني الرفيعة، كما أن ابتسامته لا تغادر شفتيه، مشيراً إلى أنه نعم الناصح لزملائه فيما يتعلق بالأمور الحياتية والاجتماعية. ويذكر الخميس أن آل مرار أحب الخير وتقديمه للآخرين؛ فحرص على صلاة الجماعة؛ حتى استشهد وهو يؤديها، لافتاً إلى أن زملاءه في العمل وضعوا على مكتبه بطاقة تشير إلى استشهاده تاركين الأشياء التي غادرها الخميس الماضي من أقلام وأوراق على حالها، فاجعاً زملاءه برحيله بعد أن خلا مكتبه من أنفاسه. وأضاف «اشتقت لصديقي الخميس الماضي، وتمنيت رؤيته؛ فذهبت لزيارته في مكتبه، ولكن أخبروني أنه في جولة ميدانية للوقوف على المزارع لطلب الاستشارة والإرشاد الزراعي، ولم أوفق في رؤيته، وفجعت مساء الجمعة بوجود اسمه ضمن ركب الشهداء، فاتصلت بجميع زملائه ليكذبوا الخبر؛ لكنهم بمرارة أكدوا لي رحيله. لم يترك الجماعة يوماً أما صديقه الآخر المهندس عدنان المرهون، فقال «لو أتحدث عن موسى لن أوفيه حقه، يوم استشهاده ذهبت إلى منزله وكان وضعهم مؤلما جداً، تحدثتُ مع أخيه وأخبرني أن موسى ودّعهم وخرج للصلاة، ملوحا بيديه على غير عادة من بعيد قائلاً: «في أمان الله». ولم يذهب صديقه المقرب وزميله في الوحدة، المهندس خليل الجراش، إلى الوحدة حتى لا يُصدم مجدداً بمكتب صديقه الخالي، الذي لا يزال تفوح منه رائحة أنفاسه، وبقايا أشيائه، يقول عن صديق عمره بمرارة «موسى لم يترك صلاة الجماعة يوماً، وعندما سمعتُ بخبر تفجير المسجد، كان اسمه يتردد على لساني». ويواصل الجراش «أنا قريب جداً من موسى، لم نكن مجرد زملاء عمل؛ بل تربطنا علاقة صداقة قوية جداً عمرها 16 عاماً، ورحيله عني أفجعني، وآلمني، رحمك الله يا أعز أصدقائي»، لافتاً إلى أن الشهيد كان يطمح شأنه شأن كل المهندسين الزراعيين في المنطقة بأن يقدم للزراعة شيئاً، وألقى آخر أسبوع ندوة عن غبار النخيل، وخرج يومين ميدانياً إلى مزارع في الجبيل وجعيمة. ويتفق الجراش مع الخميس في وصف آل مرار بأنه من الشخصيات المحببة من الجميع دون محاباة أو مجاملة، وأب حنون مرتبط ارتباطاً قويا بأبنائه، لدرجة أنهم لا يغيبون عن مخيلته، ومهندس مخلص لعمله كثيراً، وهو أفضل مهندس زراعي في القطيف، مبيناً أن المزارعين كثيراً ما يسألون عنه، ويطلبونه بالاسم لتخليص أعمالهم. ويقول آبو موسى.. جعفر آل مرار مالك أكبر متحف تراثي في محافظة القطيف، والابتسامة تعلو محياه، عندما زارته «الشرق» في مجلسه ظهر أمس: أنا لا أنتظر معزين، أنا استقبل المُهنئين باستشهاد ولدي «موسى»، وكنتُ مسروراً جداً بأن أصدقائي من بني خالد كانوا أول المواسين لي.