الأفكار الخلاقة التي يرسمها المبدعون على صفحات الحياة ببراعة وإتقان ملموسين، ليست وليدة صدفة، وليست حظاً عابراً، سقط في أحضانهم من سماءٍ سابعة. بطبيعة الحال الأفكار العظيمة طالما لم تدخل حيز التنفيذ فهي افتراضية، لا وقع لها على أرض الواقع، كطائرة حلَّقت في طيرانها، وأصابها عطب، وعجز قائدها عن إتمام عملية الهبوط بسلام. فهل نرجو أي قيمة وفائدة من الأفكار العظيمة التي لا تحفر على وجه الحياة؟ إذن فالأفكار العظيمة لا تأتي بعبثية مسار، لكنها وليدة عملية تفكير عميقة ومتقنة، وهذا لا يتأتَّى إلا بتحفيز عملية التفكير لدى الفرد، وليس بالضرورة أن يرتبط ذلك بالفترة الزمنية التي تستغرقها العملية بطولها وقصرها، بل بمقدار الطاقة الذهنية المبذولة، وكيفية التهيئة المتاحة والمصاحبة لها، لهذا يعزو العلماء تأثر حيز الإدراك والتفكير في المخ إلى نوع الغذاء الذي يتم تناوله، كالتأثير السلبي للدهون المشبعة على مقدار تدفق الأوكسجين في الدم في منطقة المخ، وبالتالي تظهر مشكلات في الذاكرة، لهذا ينصحون بتجنُّب هذا النوع من الدهون، فهناك مهيئات، وأرضية لابد من اختيارها لإنجاح ذلك. السؤال الحتمي كيف يمكننا تحفيز عملية التفكير لدينا، وهل يمكن خلق تلك العملية بإجراءات عملية ومختارة؟ هناك اختيارات مساعدة في ذلك، ومنها أن التجديد في طرق ممارساتنا الحياتية واليومية، يُحسِّن من قدراتنا العقلية من خلال التجديد في طريقة التفكير المرتبطة بممارساتنا المتجددة، فكل جديد يستدعي تنشيط وظائف المخ، فكسر الروتين الذي انتهجناه فترة من الزمن هو مفتاح يعزز عملية التفكير بطبيعة الحال. إذن الجمود والصورة المتكررة في مناشط حياتنا كفيلتان بإحباط عملية التفكير المتأمِّل، والعكس صحيح. كسر ذلك القالب الحياتي ينشِّط تلك العملية، لهذا يحرص بعض الكتَّاب والمفكرين والشعراء على السفر إلى أماكن هادئة وباعثة للبهجة لممارسة عملية خلق الكتابة، والتأليف، ونظم الشعر، فذلك التجديد والتغيير ينشِّط لديهم الجانب الابداعي في تدوين إنتاجهم. نحن مَنْ يطور مهارة التفكير فينا ببذل الجهد لزيادة مساحتها، وجعلها جزءاً من حياتنا وليست وليدة ظرف ما أو حاجة معينة، بل نجعلها ممارسة مقصودة تستحق المران، والتدريب لإتقانها بصورة فاعلة الأثر في المقام الأول، في حين أنه من أكثر الطرق فاعلية في تعزيز تلك العملية هو تخصيص مكان خاص لممارسة التفكير العميق والمتمعن في الموضوع. ولأن الأفكار الواردة هي زائرة قد ترحل بعيداً عنا بعد مدة من الزمن فلابد من التأقلم على تدوين الأفكار يدوياً باستخدام القلم والورق، أو إلكترونياً باستخدام المفكرة الإلكترونية في جهازنا المحمول، كونه الرفيق الدائم، وبهذا نحفظ أفكارنا أن تتيه في زحام تفاصيل الأيام، ومنطقياً لن تصبح تلك المدونات لأفكارنا ذات قيمة إن لم تدخل حيز التدقيق، ثم التنفيذ، وتكمن أهمية وفاعلية الكتابة والتدوين في أكثر من جانب: الأول لضمان تذكر الفكرة وعدم نسيانها، والثاني هي بمنزلة كاشف وفاحص ومدقق لجودة الفكرة، وقابلية تنفيذها، فهي تصقلها وتنمِّيها وتساعدنا في اتخاذ قرار تثبيتها، أو التخلص منها وشطبها، فكثير من الأفكار نشعر بروعتها وعظمتها حال وردتنا وبعد التمعن والدراسة نكتشف مدى قصورها، وعدم جدواها. العملية التعزيزية للتفكير ليست عشوائية أبداً، هي تحتاج إلى تدريب ومران وتنمية حتى نصل إلى مرحلة الممارسة بحرفية، وتتحوَّل إلى عادة حياتية كجزء من ممارساتنا. وكما الحديد يصقل الحديد فالإنسان يصقل مثيله الإنسان، وهذا ما يدعونا إلى مشاركة الآخرين أفكارنا لبناءٍ يكون أكثر قوة وإبداعاً، لكن الأهم في ذلك أن نتريث في اختيار الأشخاص المناسبين، فكثير ممَّن حولنا هم مصدر إلهام ودعم لنا، لذلك مشاركة أشخاص مناسبين وبيئة مناسبة في ممارسة التفكير ستكون النتيجة نجاحاً وإنجازاً بطبيعة الحال. مهم أن ندرك أن نجاحنا في تحقيق إحدى الأفكار المميزة ليس نهاية مطاف، بل بداية محاولات أخرى لتحقيق نجاحات وإنجازات أكثر أثراً في حياتنا، وهنا يكمن المطلب في مزاولة العملية بشكل دائم لتتحوَّل إلى عادة وممارسة دائمة.