أتى ذات يوم شاكياً من قسوة قلب أبيه، تلك القسوة التي لم يجد لها تفسير منطقياً ، فأبوه و رغم كونه أحد كبار تجار البلاد، إلا أنه لم يلب له حلمه البسيط في الحصول على سيارة فارهة بعد أن تخرج من الجامعة، بل إن أباه قد زاد على ذلك فاقترح عليه أن يقرضه قيمة السيارة بعد أن يجد لنفسه الوظيفة المناسبة أولاً، فما كان منه إلا أن استجاب للأمر الواقع، وبالفعل عمل صاحبنا في أحد البنوك المحلية، ثم أقرضه أبوه قيمة السيارة على أن يسدد أقساطها شهرياً، وبالطبع لم تكن بذلك المستوى الذي كان يتأمله، فقد تبخرت أحلامه المخملية راسمةً علامات استفهام تدور في مخيلته، يقول بدأت أسدد لأبي أقساط السيارة، وهو يذكرني أول كل شهر بأن لا أنسى التسديد، أصبحت أركز في عملي وأفرغ كل طاقاتي فيه حتى لا يبقى متسع أفكر فيه بأحلامي الخوالي التي بدأت تذروها الرياح، وحين أردت أن أتزوج طلبت من أبي المساعدة، وكما كان متوقعاً اشترط علي نفس الشرط قائلاً أقرضك المال اللازم للزواج على أن تسدده لي شهرياً، ولم يكن أمامي سوى الموافقة على هذا الشرط. ومع بزوغ شمس كل يوم جديد أذهب إلى عملي وأسأل نفسي لماذا يعاملني أبي هكذ؟ا لماذا يصر على إقراضي المال ثم يرهقني بالتسديد، حتى أصبحت أعيش في حالة من التقشف؟ هو لم يبخل علي يوماً بشيء فلماذا هذه المعاملة الآن؟ وعندما يحين موعد السداد نهاية كل شهر أودع في حسابه قسط السيارة وقسط المال الذي أقرضني، لم أجرؤ يوماً أن أسأل أبي هذه الأسئلة التي تعتصر بداخلي. وصلنا إلى نهاية الطريق فقد أودعت آخر قسط في حساب أبي، آليت على نفسي أن أذهب إليه فأسأله عن سبب تصرفه معي بهذا الشكل، وبالفعل ذهبت إلى منزل أبي وسألته السؤال الذي ظل يلازمني خمس سنوات دون أن أجد له إجابة مقنعة، ابتسم أبي وقال أخبرني يا بني: كيف هي حال سيارتك اليوم؟ قلت هي على أحسن حال فهي تبدو جديدة وكأنها طراز هذه السنة، ثم قال وما هي أخبار زوجتك؟ فقلت أنا وزوجتي وأبنائي بأحسن حال وأحمد الله على أن رزقني الزوجة الصالحة، ثم اعتدل أبي في جلسته وقال إبني العزيز لا تظن أن المال أغلى منك عندي، إنما هو حرصي عليك لا حرصي على المال، فمن لا يستشعر قيمة الشيء ويتعب من أجل الحصول عليه يسهل عليه التفريط فيه، ها أنت اليوم قد حافظت على وظيفتك ووصلت إلى مركز مرموق في البنك وحافظت على سيارتك وصنت زواجك وكنت رب أسرة مثابر ومجتهد في توفير لقمة العيش لعائلتك وتوفير الحياة الكريمة لها، والآن إعلم أن كل المبالغ التي سددتها لي محفوظة في البنك بإسمك وفوقها الضعف وأرجوا أن تكون الرسالة واضحة. بقي القول أن صاحبنا هو من “جيل الطفرة”، ولكن رجاحة عقل والده وبعد نظره جنبته آثارها السلبية التي ما يزال الكثير من شبابنا غارقاً فيها، فاصحو يا شباب من سباتكم العميق المال لا يأتي بالتسكع وأخذ مقاسات الشوارع طولاً وعرضاً، ولا بكمية النشاء على الغترة مقاس 62، ولا بنوع الكبكات والقلم ونوع العطر وطراز السيارة كل ذلك زبد لا يلبث أن يتطاير مع أخف نسمة هواء وأخاف أن يصدق فيكم قول الشاعر”البطن مليان ومن العز خاوي”. علينا أن نحرص على تعليم أبنائنا مثل هذه القيم؟ وأن نزيل رواسب الطفرة وصورها النمطية من فكر أبنائنا؟ وأن نغرس في عقول أبنائنا أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن اليد العاملة الماهرة تقبض على التراب فيتحول ذهباً.