لم يعد غريباً على هذا العربيّ أن يعيش غريباً! فمنذ أن أصبحت بلاد العرب رهينة للجهل والظلم والاستبداد والطائفية في غالبيتها أراد الرجل العربي أن يعيش خارج هذه الأسوار، وأن يحمل جسده الموسوم بعذابات الأرض ليُلقيَ به بعيداً، حيث الحرية والخبز والأمان! وما زلتُ أتذكر عيني ذلك الصديق العربي الذي أضحت بلاده نازفة بين سيف التشدد ولعنة الاستبداد؛ كانت عيناه تلمعان وهو يقول: اللهم وطناً غير هذا! وكنتُ أتحدث مرة مع أحد الأصدقاء وهو من نفس الدولة، وكان يتحدث لي عن رحلة مجنونة سيركب فيها البحر متجهاً لإيطاليا، باحثاً عن العمل بطريقة غير نظامية، وكان مزهوّاً وهو يتابع: هل تظن أنهم سيطردونني؟ أبداً! فهم يعتقدون أن بلادهم «بلاد الرب» ولا يجوز أن يُطرد منها أحد! كثيرون في عالمنا العربي الذين فضّلوا «كعكة» المنفى على «خبز الوطن»، بل إن أكثرهم آمن بالرأي القديم الذي يرى أن وطنك هو ما حَمَلك! لا ما حملته أنت، لاشكّ أن أسباب هجرة العرب واضحة ومعروفة لدى الجميع فبدءاً بالأوضاع السياسية ومروراً بالبحث عن فرص العمل ومحاولة العيش الكريم وهروباً من العنف والجهل والطائفية، وكثيرون اليوم من شباب هذا الجيل يستقرون في بلاد أوروبا وأمريكا ينتجون ويؤثرون ويحصلون على فرص وظيفية عالية ويمارسون شعائرهم بحرية ويأمنون على أولادهم وزوجاتهم؛ وهل يريد الإنسان من وطنه غير هذا؟! هل يريد سوى حرية حقيقية تامة وأمناً ورزقاً طيباً وحياة هادئة؟! لم يعد هؤلاء ملُومين في اختيار طريقة حياتهم المقبلة، وكيف نلومهم.. وهم ما ذهبوا إلا طمعاً في الحياة! بل تتجه الأسئلة المُرّة نحو المؤسسات الكبرى في العالم العربي من حكومات ومنظمات مدنية وجمعيات عن هذا البحث الجاد من شباب العرب عن الغربة! إن منطقةً تعيش على تنُّور ملتهب من الصراعات والحروب والطائفية وينقصها كثير من عوامل النهضة كما هي المنطقة العربية لا يستغرب فيها أحد أن يبحث إنسانها عن ملجأ آخر يأكل فيه ويأمن ويعيش! رباه! كم هو موجع ذلك البؤس الذي يضطرّ العربيَّ للوداع الطويل الطويل، باحثاً في غير وطنه عن وطنه!