لو قدّر لك أن تزور أيّا من المنشآت الحكومية التي أقيمت في السبعينيات والثمانينيات لأذهلتك جودة البناء ودقة التنفيذ، وسيعتمر رأسك الاستغراب من تماسك هذه المباني رغم كل السنين التي مرّت عليها دون حاجة لتدخل جذري في إعادة تأسيسها. ولو قدّر لك أن تزور أيّا من المنشآت الحكومية التي أنشئت في الألفية الجديدة ل«فطست» تعجّباً من كمية الأخطاء الهندسيّة والإنشائية واستخدام أسوأ المنتجات وأكثر العيّنات رداءة في مشروعات يفترض أنها أقيمت لتعمّر عشرات السنين. فعلى طريقة المقاول الفهلوي، الذي يعتمد قاعدة «طبْطِبْ وليّس.. يطلع كويّس»، تبدأ المباني بالتشقّقات حتى قبل أن يبدأ العمل فيها، وتكثر التسرّبات قبل أن يفتح صنبور واحد من المياه، وتنهار الجسور والجدران لو اتّكأ عليها طفل صغير، وتنخسف الطرقات تحت دبيب النمل. نحن هنا لسنا أمام مشكلة مقاول واحد، أو اثنين، أو عشرة، نحن أمام سياسة عامة لسرقة المال العام، وجهات رقابية تشارك في هذه السرقات، وجهات إشرافيّة تعتمد هذه السرقات، وأخيراً أمام أمانة غائبة وقوم لا يخافون الله ثمّ لا يخافون القانون أو المحاسبة. وبعد أن يلهف «حراميّة» المشروعات لقمهم السائغة، تدبّ الغيرة في نفوس لصوص الصيانة، الذين يسيل لعابهم لمعرفتهم الحقيقية بالنصيب الذي استولى عليه الحراميّة الكبار من هذه المشروعات، فيبدؤون التخطيط لمصّ موازنات الصيانة، فلا يبقى جحر فأر في آخر مبنى إلاّ واستنتجوا له احتياجاً من الصيانة. إن سياسة «تلصيق» و«ترقيع» المشروعات الحكوميّة تنبئ عن خلل أوّلي في القيم التي يتعامل بها المسؤولون القائمون على مثل هذه المشروعات، فالمباني التي نشاهدها بعلاّتها والتي ترصد لها ملايين ومليارات الريالات من الميزانيّة كأنها تقام بشكل مؤقت لأناس مؤقّتين وأجهزة حكوميّة مؤقّتة، وثاني ما تنبئ عنه عقم الآلية التي تقرّ مثل هذه الجنايات في حقّ الدولة والوطن والناس. قبل محاربة الفساد في مشروعات الحكومة ومحاسبة مقاول صغير على «ماسورتي مياه» يجب إعادة النظر جذريّاً في طريقة طرح المناقصات الحكوميّة وترسيتها، فالتلاعب لا يحدث بين العامل في المشروع ورئيسه المباشر، وإذا حدث فهو تلاعب في مئات الريالات فقط، وإنّما يبدأ في المكاتب الفارهة، وبين «الهوامير» الكبار، الذين يتلاعبون بمئات الملايين، ويتقاسمونها عن منتهى قناعة بأن يد القانون لن تطالهم أو تصل إليهم لأنهم يعرفون كيف تدور الأوراق وكيف تدار ومن أين تؤكل كتف المال العام بطريقة نظاميّة لا غبار عليها.