قبل ثماني سنوات تقريباً، حدث نقاش حول قضيةِ كشف المرأة لوجهها بين شيخٍ فاضل، ومجموعةٍ من طلبة العلم على رأسهم محمد العباسي أحد طلبة الشيخ الألباني – رحمه الله – وكنت حريصاً على متابعة الردود بينهما مع أن القضية كانت محسومةً في نظري لصالح الشيخ، لأن رأيه هو الشائع و يتفق مع ما درسته واعتدت عليه طوال حياتي، وبسببه كنت متعصباً لرأي الشيخ حتى قبل أن أعرف أدلة المخالفين، بل لا شك لدي في أن الحق معه، غير أن ما كان لافتاً هو الهدوء الذي كان عليه طالب العلم الآخر، وقوة حجته وذكائه، إلى درجة أنه زعزع قناعاتٍ في داخلي، وحَلَّ العقدَ التي نسجها القائلون بالرأي الآخر عقدة عقدة، فقررت البحث في المسألة ومعرفة رأي الأقدمين والمتأخرين فيها، فكانت نتيجة هذا البحث – فيما بعد – صادمة، خصوصاً أن نتيجة النقاش – من وجهة نظري- كانت ساحقةً لصالح القائلين بجواز كشف المرأة لوجهها، وما دعاني للوصول إلى هذه النتيجة هو أن الطرفين كانا يستدلان بالأدلة نفسها تقريباً، وكان الفارق بينهما هو في فهم الدليل و طريقة الاستدلال، فعلى سبيل المثال أورد الطرفان حديث المرأة الخثعمية التي فتنت الفضل بن العباس، فكان الشيخ الفاضل يقول: ليس فيه أن تلك المرأة كانت كاشفة لوجهها، وأن النظر إلى المرأة يكون إلى جسمها وامتلائه واعتداله ونحو ذلك من محاسن الجسم، بينما يرى الشيخ العباسي أن المرأة الخثعمية كانت كاشفة لوجهها، بدليل أن راوي الحديث عرف أنها كانت شابةً وضيئةً حسناء، كما أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عرف أن الفضل فُتِن بها، وأنه – أي العباسي – لو سلَّم جدلاً بصحة تأويل الشيخ الفاضل لاقتضى ذلك أن ثياب المرأة كانت رقيقًة تَشِفُّ عما تحتها، أو ضيقةً ملاصقةً لجسمها تُبرِزُ مفاتنها، فأيهما أهون: أن تكشف المرأة عن وجهها، أو أن تكون ثيابها بهذا الشكل؟!. و بهذا يكون الشيخ الفاضل بتأويله قد هرب من شر فوقع بما هو أشر منه!. أرجو ألا يأتيني من يقول: ومن أنت لترجح رأياً على آخر؟، فأحب أن أطمئنه من الآن وأقول له: إن الطرفين لم يختلفا في الدليل ولم يكن جوهر الخلاف في تصحيح الأحاديث أو تضعيفها ليكون الأمر صعباً إلى هذا الحد، بل كان الاختلاف في التأويل و طريقة الاستدلال، كما أن القائلين بكشف الوجه صحابةٌ كرامٌ وأئمةٌ أعلامٌ وعلماءٌ أفاضل، ولا يعني أنهم حين يُجيزون للمرأة أن تكشف عن وجهها، أنهم يجبرونها على فعل ذلك، على العكس تماماً من الطرف الآخر الذي يريد أن يفرض رأيه على الناس، مع أنه لو عذرهم وأحسن الظن بهم لكان خيراً له، بدلاً عن أن يقول للناس: (لا إنكار في خلاف) ثم تثور ثائرته مع أدنى خلاف!، وحين تكون أمام هذا الموقف وتصل إلى هذه الدرجة من الاحتيار فلا بد من الاحتكام إلى العقل، مع أني أعرف أن هناك من يُصَاب بحساسية شديدة بمجرد الإتيان على العقل، و يقابل ذلك دوماً بالقول المشهور: ( الدين لا يؤخذ بالعقل)، وهو لا يدري أن هذا القول يختص بالأمور الغيبية، و بأمور العبادات المحضة في الأحكام الشرعية، فلا أدري لماذا يُعَاب على الذين يستخدمون عقولهم في فهم الأحكام والتأويل، بينما يُمَجَّد أولئك الحِفِّيظة الذين ينقلون من كتب الأقدمين بلا فهم أو تحقيق!، حتى صاروا في أبسط خلاف مشغولين بالدفاع عن أنفسهم، و لا يتجهون إلى مناقشة الرأي مباشرة بقدر ما أنهم يلفون ويدورون حول الشخص الذي يناقشهم من أجل الطعن في مصداقيته والبحث عن مثالبه والإساءة إليه، فتارة يسألونه عمَّن هو شيخه، وتارة يسألونه عمَّن زكَّاه، ودوماً يُسأل عمَّن يقف وراءه!، فإن لم يجدوا إليه مدخلاً تحدثوا في أمور عامة لإيهام من يتابعهم بخلاف الحقيقة، كأن يقولوا لمن خالفهم: بيننا وبينك الكتاب والسنة، مع أن الخلاف هو في الفهم والتأويل!، أو يتهموا من خالفهم بأنه يدعو إلى التبرج والسفور، ويريد إفساد المجتمع!، مع أن الزيادة في الدين كالنقص فيه، كما أن الضغط يولد الانفجار، بل إن من أكبر أسباب التطرف والإلحاد هو إدعاءُ الخيريةِ المطلقة وازدراءُ المخالفين، أو تضييقُ الدين وحَمْلُ الناسِ على رأي واحد، وأسوأ من هذا وذاك أن يضطروا إلى محاولة استعداء السلطة على المخالفين، أو يستنجدوا بالقبيلة من أجل الضغط عليهم كما حدث مع الشيخ أحمد الغامدي قبل أيام، فهل وراء هذا الإفلاس من إفلاس!.