الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة وفريضة ودعامة من دعائم الإيمان، لا يصح ولا يقبل إسلام الإنسان المستطيع له إلا بأدائه والقيام به، فيه تتنزل الرحمات وتقال العثرات وترفع الدرجات وتكفَّر السيئات، لأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة كما صح عن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. الحج يذكرنا بالأصل العريق منذ زمن سيدنا إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل إلى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث تعرف الإنسانية وحدتها وتواصلها الديني، إن الصلات العقائدية والتاريخية سر من أسرار الحج من خلال مناسكه ومتعبداته وحكمه وأحكامه، الحج رحلة إيمانية وذكريات كريمة فيه ملتقى المسلمين الأكبر ليشهدوا منافع لهم، تتجلى فيه المساواة بأسمى معانيها، وتبرز مظاهر الإخاء الصادق بين المؤمنين كافة. هذا اليوم يوم السبت يصادف يوم العيد الأكبر حيث يوجد الحجاج الآن في منى لقضاء أيام التشريق الثلاثة بعد وقوفهم في عرفة ومبيتهم في مزدلفة يوم أمس، وهنيئاً لمن حج البيت واعتمر وأكمل ركنه بخشوع وطمأنينة. الحج له دور كبير في الثقافة الاجتماعية، فقد كان الحجاج قديماً يأتون إلى مكةوالمدينة وينهلون منهما العلوم الدينية على يد مشايخ الحرمين كلٌّ حسب تخصصه، وكذلك تجد أن بعض المجاورين للحرم الذين قدموا من كل مكان يقدمون دروسهم لمن يرغب في الاستفادة والتزود بالعلم، فبهذا يكون الحج له دور كبير في الثقافة الاجتماعية بين المسلمين، وتبادل فنون العلوم خلال موسمه. كان الحجاج في السابق يستعدون للحج منذ شهور ويبدأون في ترتيب حوائجهم ومستلزمات الطريق وكل ما يحتاجه الحاج من غذاء وكساء وماء ونقود، ويلتحق الحجاج بقوافل الحج التي تحدد مسيرها في يوم معين، ثم يتجه الحجاج كلٌّ حسب طريقه، فهناك الطرق البرية التي يسلكها الحجاج من الشام ومصر والعراق واليمن ووسط الجزيرة العربية، وهناك الطرق البحرية التي يفد منها الحجاج إلى جدة وينبع آنذاك تحمل حجاج البحر، وقد تكون المسالك البرية في بعض الأحيان غير آمنة بسبب كثرة قطاع الطرق أو سيطرة بعض القبائل على بعض مضائق الطرق البرية، حيث تطلب من كل حاج أن يدفع ضريبة عن نفسه وإلَّا لا يسمح لهم بالمرور، وخاصة إذا لم تكن هناك سلطة مركزية قوية تتحكم في طرق الحجاج وتحميهم من قطاع الطرق وبعض القبائل الضاربة على تلك الطرق التي تبحث عن الإتاوات. وقد تُغلق طرق الحجاج البرية عدة أعوام بسبب الحروب، ففي العهد الأيوبي وبسبب الحروب الصليبية كان طريق الحاج يتعرض للإغلاق بعض السنوات إذا لم تكن هناك هدنة تسمح للحجاج بالمرور عبر الأراضي التي يسيطر عليها الصليبون آنذاك، لذلك كان الحج قديماً عبر هذه الطرق تحفُّه الأخطار والأهوال لما يتعرض له المسلمون من مشكلات في طرق حجهم، وكانت المدة التي يقضونها في تلك المسالك البرية تتعدى الأسابيع وربما تزيد على الشهر والشهرين في الذهاب والعودة، أما الطرق البحرية فهي لا تقل خطراً عن الطرق البرية، فإذا سَلِمت السفن من القرصنة البحرية فيكون هناك خطر البحر وأهواله، ويذكر لنا ابن جبير في رحلته إلى مكة سنة 578 ه عندما قدم من الأندلس إلى الإسكندرية ثم غادرها إلى القاهرة وبعدها رحل من عيذاب إلى جدة عبر البحر، فيروي أخطار البحر وأهواله والمشكلات التي صادفوها أثناء رحلتهم إلى مكة. فكيف كانت الطرق قديماً وكيف هي الآن بهذه الاختراعات الحديثة واختصار الوقت إلى ساعات في الجو أو بضع يوم أو يومين في الطريق البري. كان الحجاج عند قدومهم إلى مكة يتلهفون بشوق إلى رؤية المسجد الحرام والكعبة المشرفة، ويكون شعورهم عند مشاهدتهم الكعبة المشرفة من أجمل المشاعر التي تمر عليهم في حياتهم، لأنه شعور إيماني عميق داخلهم حيث قطعوا كل تلك المسافات والأخطار ليؤدوا حجهم، وعندما تبدأ الأيام العشرة المباركة يبدأ الحجاج في التجهز للمبيت في منى والوقوف بعرفة في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، وإذا فرغوا من الوقوف في عرفة والمبيت في مزدلفة توافدوا إلى منى ليمكثوا فيها أيام التشريق الثلاثة، وفي هذه الأثناء يظهر على السطح شخصية مهمة يتم تكليفه بأن يكون «مبشراً للحاج» فمهمته أن يجمع المكاتيب والرسائل من الحجاج إلى الأهل والأقارب والأصدقاء، ويأخذ التوجيهات من أمير الحاج فيما ينقله إلى السلطان أو الأمير عن أخبار الحج، ويسير مبشر الحاج في اليوم الثاني من أيام التشريق متوجهاً إلى بلده، وقد يكون معه دليل يرشده في الطريق، وقد لا يحتاج بعضهم لدليل لمعرفتهم بالطريق، وقد يتعرض مبشر الحاج إلى أخطار قطاع الطرق وقد يقبضون عليه ويأخذون ما معه من رسائل ومكاتيب، وقد يتأخر وصوله إلى البلد أو قد لا يصل نهائياً، فتكثر الأراجيف ويشتد الهلع والخوف لدى أهالي الحجاج، وقد يكون بصحبة الحجاج أم السلطان أو زوجته أو ابنه فينزعج السلطان كثيراً من تأخر المبشر ليطمئنه عليهم، وقد يُظن أن الحجاج واجهوا أخطاراً أو مشكلات أو تم الاعتداء عليهم، وأن رجوعهم قد يتأخر أو ينعدم، ولا يهدأ لهم بال حتى يعود الحجاج سالمين، أما إذا وصل المبشر إلى البلد في الوقت المتوقع وصوله فيه فإنه يذهب إلى السلطان ويخبره بأمور الحج وسلامة الحجيج ويخلع السلطان عليه الهدايا الثمينة، وكذلك الوزراء أيضاً، ثم يوزع الرسائل والمكاتيب على الأهالي ويطمئنهم على سلامة الحجاج ويخبرهم بوقت عودتهم فيهدأ بالهم ويشعرون براحة كبيرة، لذلك كان دور المبشر كبيراً في طمأنة أهالي الحجاج عن ذويهم، حتى أن هذه المهمة اتخذها بعض الناس في كثير من المدن والقرى قديماً لتبشير الأهالي بقدوم ذويهم فيخرجون بعيداً عن المدينة أو القرية، وينتظرون أياماً قدوم الحجاج فإذا شاهدوهم وتأكدوا من قدومهم أسرعوا إلى ذويهم وبشروهم بقدومهم لعلهم يحصلون على هدايا أو أعطيات سواء من الحجاج أو من أهلهم، إلا أن هذه الوظيفة تلاشت نهائياً بسبب أن العالم أصبح قرية صغيرة، كلٌّ يعرف أخبار الآخر بالدقيقة والثانية. ختاماً نسأل الله العلي القدير أن يمنَّ على حجاج بيته بالصحة والعافية وأن يتقبل منهم حجهم، وأن يعودوا إلى أوطانهم سالمين غانمين، وكل عام وأنتم بخير وصحة وعافية.