لاشك أن السياحة الدينية في مكة تتطلب كثيراً من الوقت والجهد والمتعة أيضاً. وقد يخفى على كثير من قاصدي بيت الله الحرام بأن مكة وإن كانت عاصمة دينية أشرق منها نور الإسلام ومنها انطلق لينير العالم بأسره إلا أنها مدينة عرفت ومازالت بمدينة الثقافة والأدب والعلم والتجارة. فقد كان سوق ذي المجاز من أسواق العرب الأدبية في العصر الجاهلي الواقع شمال شرق عرفات ولاتزال آثاره باقية حتى الآن حيث كان يجتمع فيه العرب للتجارة وللخطب وللاجتماعات الأدبية حتى أصبح معلماً لكل العرب وحضارة تاريخية لا تنسى. وبما أن الحجيج يتوافدون على مكة كل عام للحج والعمرة فقد أثر ذلك على ساكنيها وزوارها فاختلاط الثقافات وتبادل المنافع كان له النصيب الأكبر لأرض مكة وأهلها ولكل قادم لها، ومن تلك الآثار الباقية درب زبيدة الممتد من بغداد إلى مكة فقد كان درب التجار والحجيج الوافدين إلى بيت الله الحرام. وقد اشتهر باسم «درب زبيدة» نسبة إلى السيدة زبيدة زوج الخليفة هارون الرشيد التي تكفلت ببناء هذا الدرب بكامل منافعه من آبار وعيون ليكون عوناً للحجيج في رحلتهم وليبقى إلى الآن ذكره يُردَّد على مسامعنا لكونه ذا قيمة تاريخية نبيلة وإن جف ماؤه وغاب زواره. ومن تلك الآثار العالقة في الذاكرة لعهد قريب سوق الليل الواقع إلى جوار المسجد الحرام حيث يتم البيع والشراء فيه بغروب شمس الأصيل وعلى ضوء مصابيح المكاويين تنشط حركة السوق ليكون مستوطناً لكل وافد له عشق الفن والشعر والأدب فيتسامرون على نغمات وأهازيج الشعراء. وبين حنايا تلك الأزقة تقع دار السيدة خديجة بنت خويلد تلك الدار التي حضنت الرسول محمد واحتضنته برفق في تلك الدار ولدت فاطمة عليها السلام لتتحول الدار إلى مسجد بعد رحيلهم، وهكذا تظل مكة وأسواقها وأزقتها ذات حراك فكري وثقافي ديني مهما عبثت بها الأيدي إلا أنها تبقى ولاتزال مناراً يفتخر به على مر العصور والأزمان.