لا جديد إن قلنا إن العالم اليوم أصبح كما يصفه كثير ب «قرية صغيرة» يستطيع المرء أن يعرف أخبار أقصى الكرة الأرضية بضغطة زر من جهازه المحمول، كما أن بإمكانه أن يتباحث ويتبادل الآراء مع المختلفين عنه عرقياً ودينياً وثقافياً وقتما يشاء، رغم كل تلك المساحات الشاسعة والمملوءة بالأنهار والبحار والوديان والجبال وكل ما تحفل به الطبيعة من ظواهر. الجديد في الأمر هو أن التجسيد الحقيقي لذلك المصطلح نجده يكاد ينحصر فقط في بلدان العالم الثالث بكل أبعاده المختلفة. أما ما يُسمّى بالعالم الأول أو المتقدم فلا يزال الكون بالنسبة له شاسعاً متمدداً لا حدود له. بمعنى آخر، نستطيع أن نقول إن التقنية التي اخترعها العالم المتقدم تحولت -بمرور الوقت- إلى منظار أو تلسكوب يستعين به العالم الخلفي ليرى إنجازات وانتصارات العالم الأول فقط لتترسخ وتتجذر فكرة التفوق الغربي حتى على مستوى القيم والمبادئ الإنسانية، وهذا أمرٌ خطيرٌ للغاية؛ ليس لأن تلك القيم والمبادئ قد تتعارض مع الثوابت أو حتى مع الأخلاق والقيم الاجتماعية فحسب، بل لأنها ستتحول بمرور الزمن إلى محرض على الانسلاخ من الهوية والانتماء، وحينها سنصبح مجرد مجتمعات تابعة وأسيرة لمعطيات الحضارة الغربية، تركن على هامش الوجود البشري. أما ما يُعرف ب «التغذية المعاكسة» أي قراءة ما يجري من أحداث وتحولات في العالم الخلفي، فلا أحد يكترث لها في الحضارات المتقدمة سوى المراكز البحثية المتخصصة والأجهزة الاستخباراتية، ما عدا هاتين الجهتين، سيكون ضرباً من الجنون لو فكّر أحد في تتبع الأخبار والحقائق في تلك المناطق النائية! ونتيجة لاهتمامنا المبالغ فيه بتتبع أخبار الأمم المتطورة، بتنا نشعر بأن الأحداث والكوارث أصبحت ذات إيقاع سريع، لدرجة أن المرء تنتابه أحياناً رغبة بإفراغ ما تراكم في ذهنه من تلك الأحداث والمآسي كي يريحه من الإرهاق المتواصل في التفكير في الأسباب والنتائج. في اعتقادي أن ثورة التقنية هي السبب الرئيس لما تزدحم فيه أذهاننا، لأننا في السابق (قبل الثورة التكنولوجية) لم نكن على اطلاع على ما يحدث خارج حدود أوطاننا إلا ما يستجد من أحداث جسيمة مؤثرة. فكل ما كان يشغلنا هو المحيط الذي نعيش فيه بكل ما فيه من سلبيات وإيجابيات، حيث كنا على اطلاع تام بأدق تفاصيل حياتنا الاجتماعية، ويعزو السبب -من وجهة نظري- إلى تخلفنا التقني في ذلك الزمن. أما في الوقت الراهن، فقد تشعبت الاهتمامات والاطلاعات على العالم الخارجي بحيث فقدنا السيطرة على التدفق المعلوماتي الهائل وكأننا مسلوبو الإرادة أمام هذه الثورة التي اجتاحت حياتنا في السنوات الأخيرة بحجة معرفة ما يدور في العالم الخارجي، دون أن نسأل أنفسنا عن الهدف الحقيقي لإشغال عقولنا بأمور قد لا تعود على مجتمعاتنا بأي فائدة!. على عكس ما يحدث في مجتمعات مثل أمريكا وأوروبا حيث ظلت اهتمامات المواطن تكاد تكون متطابقة مع ما كانت تشغل الأجيال السابقة لتلك المجتمعات، فالأهمية والأولوية دائماً ستكون لما يستجد في الشأن المحلي بل إن كثيراً منهم لا يكترث لما يحدث على سبيل المثال في منطقة الشرق الأوسط، إذ يكتفي فقط بما يقرأه من عناوين في الصحف المحلية عن تلك المناطق الموبوءة بالصراعات الدموية، ويعزو هذا التجاهل المتعمد إلى واقعية تلك الشعوب التي تثق بمراكز البحوث المتخصصة في شؤون العالم الخارجي، فهي تُمثل بالنسبة لهم خزانة من المعلومات القيمة يتم اللجوء إليها عند الحاجة، لذا لا حاجة لأن يهدروا أوقاتهم في قراءة التفاصيل المتعلقة بالمحيط الخارجي. من المهم جداً أن نجيب على سؤالين جوهريين في هذا السياق كي نعيد ترتيب أولويات اهتماماتنا -على الأقل لإراحة أذاهننا من الإجهاد والتعب- الأول: ماذا يعني مفهوم «العولمة» في ثقافات الأمم المتقدمة؟ والثاني: هل يؤمن أهل تلك الثقافات بأن التبادل الحضاري ليس بالضرورة أن يخضع للمعايير المادية البحتة مثل التطور الصناعي والتقني؟ وقبل أن نجيب لا بد من ذكر بعض الأطروحات والأفكار الغربية التي ستساعدنا على الإجابة على تلك الأسئلة، ولنأخذ مثلاً رأي المفكر الأمريكي المثير للجدل فوكوياما صاحب نظرية «نهاية التاريخ» حول الإسلام. يرى فوكوياما أن تفوق الحضارة الغربية سيقودها في نهاية المطاف إلى الانتصار على الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى، لأن الإسلام (من وجهة نظره) كفكر وممارسات يناقض فكرة الديمقراطية الليبرالية، إذ يقول « إنه بالرغم من القوة التي أبداها الإسلام في صحوته الحالية، فبالإمكان القول إن الإسلام لن يكون له جاذبية خارج المناطق التي كانت في الأصل إسلامية الحضارة، وقد يبدو أن زمن المزيد من التوسع الإسلامي قد ولّى إلى غير رجعة». ويشاركه الرأي صاحب نظرية «صدام الحضارات» صمويل هنجتون حيث يرى «أن شعور الانتماء إلى حضارة معينة سوف يكون له شأن متزايد في المستقبل (بالطبع يقصد الحضارة الغربية)، وسوف يحكم مستقبل العالم الصراع المتوقع بين 6 حضارات رئيسة، يأتي في مقدمة الصراعات، الصراع بين الحضارة الغربية من جهة والحضارة الإسلامية من جهة أخرى». بعد الاستشهاد بمثل هذه الأطروحات الغربية، بوسعنا أن نجيب على تلك الأسئلة الجوهرية وهو أن مفهوم العولمة (استناداً على الآراء السابقة) هو فرض وتعميم الأنموذج الغربي بكل ما فيه على الشعوب الأقل تطوراً فكرياً وتقنياً، كنوع من الهيمنة الحضارية على سائر الأمم بهدف إلغاء هوياتها أو دمجها في بوتقة واحدة كي تنفصل عن إرثها ومكتسباتها المتراكمة عبر التاريخ البشري الطويل. من هنا تتجلي لنا المسؤولية التاريخية لكل شعوب العالم الثالث، وعلى وجه الخصوص الشعوب الإسلامية لمناهضة فكرة العولمة، لأن الفكرة بحد ذاتها مخيفة ومرعبة، فهي لا تقل خطورة على المدى البعيد بما يفعله السلاح النووي من إبادة الكائنات الحية في المعارك فقط ليشعر الطرف القوي بلذة الفوز والانتصار مع الفارق أن المستهدف في هذه المعركة هي هويات الشعوب لا أجسادهم، ولا أجد غضاضة بأن أصفها بمخطط يهدف إلى إبادة كل حضارات الشرق كي لا تقوم لها قائمة، خشية من أن تستعيد دورها الريادي بعدما يشتد عودها، فتصبح خطراً على الحضارة المادية المعاصرة لأنها تفتقد لأهم عنصرين لاستمرار أي حضارة وهما الأصالة والامتداد التاريخي.