في هذا المقال الأخير ما بين تحقيق الصليبيين حلمهم والانكسار الذي حصل لهم على أيدي المسلمين، سوف أذكر انكسار الصليبيين وفشل حلمهم في الاستمرار باحتلال الأراضي الإسلامية في بلاد الشام، وكان مقالي السابق توقف عند الهدنة التي تمت بين الملك الكامل محمد صاحب مصر والإمبراطور فريدريك إمبراطور ألمانيا سنة 626 ه/1229م، وتسلم الصليبيون القدس من الملك الكامل محمد، وأصبح الملك الكامل هو سيد الموقف في الدولة الأيوبية وسيطر على دمشق وأصبحت تابعة له، وفي عام 635 ه/1238م توفي الملك الكامل محمد في دمشق، ودب النزاع بين ولديه الملك الصالح نجم الدين أيوب الذي سيطر على دمشق وأخيه الملك العادل الثاني الذي سيطر على مصر، وعادت النزاعات من جديد في البيت الأيوبي، إلا أن الملك الصالح نجم الدين أيوب وبخبرته وحنكته السياسية استطاع أن يأخذ مصر من أخيه ويترك دمشق لعمه الملك الصالح إسماعيل، وبهذا تغيرت الظروف السياسية؛ لأن سيطرة نجم الدين أيوب على مصر أخافت عمه الصالح إسماعيل، وشعر أن نجم الدين أيوب سوف يسترد دمشق منه؛ فلجأ إلى الصليبيين في عكا وتعاهد معهم ضد ابن أخيه فأصبح هناك تحالف صليبي أيوبي ضد الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر، وكان من ضمن شروط المعاهدة أن يساعدوه في حالة هجم عليه ابن أخيه، وتنازله لهم عن قلاع استراتيجية مثل قلعة صفد والشقيف ومناصفة بعض المدن معهم، وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح منه؛ حيث اشتهرت دمشق بصناعة السيوف الأصلية، وكان ذلك سنة 638ه/1240م، وقد زادت هذه الهدنة التي تمت الفرقة بين زعماء البيت الأيوبي، حتى أنه في سنة 642ه/1244م تم الاتفاق بين الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق والملك الناصر داود صاحب الكرك والملك المنصور صاحب حمص على مهادنة الصليبيين الذين في عكا ضد الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر، وكان أهم بند في تلك الهدنة هو تسليم بيت المقدس لهم مرة أخرى بعد أن حرره الملك الناصر داود منهم سنة 637ه/1239م مع إعطائهم امتيازات كبيرة في بعض المدن، وكان نجم الدين أيوب قد كاتب الخوارزمية ودعاهم للحضور إلى بلاد الشام لمساعدته ضد عمه الصالح إسماعيل، وبهذا أصبحت المواجهة العسكرية هي الفاصل بينهم؛ حيث قدم الخوارزمية في جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل وتوجهوا إلى بيت المقدس وحرروه من الصليبيين وقتلوا وسلبوا فجفل الناس منهم، ومن ثم توجهوا إلى غزة، فلما سمع نجم الدين أيوب بخبر انتصارهم وتحريرهم بيت المقدس أرسل لهم الهدايا والأموال والأقمشة والخيول والعساكر، وبهذا انضم جيش الخوارزمية إلى جيش مصر واستعدوا لمواجهة الجيش الأيوبي في الشام وحلفائهم الصليبيين، ودارت بينهم معركة شرسة سميت ب «حطين الثانية»؛ حيث تمكن الخوارزمية ومن معهم من قتل ثلاثين ألفاً من الصليبيين وأسر حوالي ثمانمائة، ويذكر سبط ابن الجوزي في كتابه مرآة الزمان «ولقد أصبحت ثاني يوم الكسرة إلى غزة، فوجدت الناس يعدون القتلى بالقصب، فقالوا هم زيادة على ثلاثين ألفاً»، ومن نتائج هذه المعركة أن انكسر الوجود الصليبي في الشام وأصبح في عكا وما جاورها، كذلك أصبح الملك الصالح نجم الدين أيوب هو سيد الدولة الأيوبية دون منازع. وصلت أخبار هذه الهزيمة إلى أوروبا فقرروا إرسال حملة صليبية قوية تسترد بعض الأماكن التي حُررت منهم، وبالفعل ففي سنة 647 ه/1249م وصلت الحملة الصليبية السابعة بقيادة الملك لويس التاسع ملك فرنسا وكانت وجهتها إلى دمياط، وتمكنوا من احتلالها بعد هروب أهلها منها، وقد اغتم نجم الدين أيوب بسماعه سقوط دمياط وهروب من كانوا يقومون بحراستها فأمر بالقبض على من هرب، وتم إعدامهم نظير خوفهم وتقاعسهم أمام العدو، تأهب الملك الصالح نجم الدين أيوب لمواجهة الحملة الصليبية، وكان مريضاً فحُمل في محفة إلى المنصورة ليشرف بنفسه على تنظيم الجيش الإسلامي، وما لبث أن توفي بعد وصوله بعدة أشهر، وقد أخفت وفاته زوجته شجر الدر ولم تخبر أحداً، وأرسلت إلى ابنه توران شاه في بلاد الشام تخبره بوفاة أبيه وتطلب منه الحضور وبسرعة إلى مصر، قدم الملك توران شاه إلى مصر والجيش الصليبي يقيم في مكان عبارة عن مثلث تحده المياه من جهتين، فعمل توران شاه خطة ساعدت المسلمين على الانتصار على الصليبيين، وقد حفظها له التاريخ، وفكرتها بناء سفن يتم حملها عبر ظهور الجمال إلى بحر المحلة دون علم الصليبيين، فتم ذلك.. وتمكن المسلمون من قطع الطريق على الصليبيين وتفجير المياه عليهم، وحاول الصليبيون الانسحاب إلى دمياط إلا أنهم تبعوهم إلى مكان يقال له «فارسكور»، وهي قرية من قرى مصر قرب دمياط، وقاتلوهم قتالاً شديداً حتى تمكنوا من أسر ما يزيد على ثلاثين ألف صليبي، وكان من ضمن الأسرى قائد الحملة الصليبية السابعة الملك لويس التاسع وأخواه «ألفونسو، وشارل»، وتم اعتقالهم في دار فخر الدين بن لقمان كاتب الإنشاء، وبدأت المفاوضات بين الصليبيين والملك توران شاه على دفع فدية مالية كبيرة عن الملك لويس التاسع وبعض الشروط، إلا أنه في هذه الأثناء قُتل توران شاه من قبل مماليك والده؛ لأنهم شعروا بتصفية توران شاة لهم فبادروا هم بقتله، وبعدها سيطروا على مقاليد الأمور، ويعد أغلب المؤرخين أنه بموت توران شاه ينتهي تاريخ الدولة الأيوبية ويبدأ تاريخ دولة المماليك، وقد أكمل المماليك التفاوض مع لويس التاسع حتى تم الاتفاق بينهم وغادروا إلى عكا بعد أن دفعوا الفدية المقررة عليهم. لم يقم للصليبيين قائمة تذكر بعد هذا الانكسار الكبير لهم في هذه الحملة، ولم يتم إرسال أي حملة صليبية كبيرة بعدها وإنما ظل الوجود الصليبي في بلاد الشام مسألة وقت لا أقل ولا أكثر؛ حيث تمكن السلطان الظاهر بيبرس من إنزال الهزائم بهم واسترد المدن والقلاع التي بأيديهم، حتى كان حكم السلطان قلاوون الذي أكمل ما قام به الظاهر بيبرس وهاجمهم في كل مكان ولم يبق لهم سوى مدينة عكا، وكانت بين الصليبيين والمماليك هدنة إلا أن بعض التجار الصليبيين نقضوا تلك الهدنة بقتلهم أحد التجار المسلمين في عكا؛ فطالب السلطان قلاوون بالقتلة ليقتص منهم إلا أنهم رفضوا تسليمهم للسلطان، فأعلن التعبئة العامة وتحرير عكا منهم، وما لبث أن توفي وهو في طريقه إليهم، فخلفه ابنه الأشرف خليل الذي قرر المضي فيما كان والده يريد المضي فيه وهو تحرير عكا من الصليبيين، فتوجه إليها وحاصرها، ورفض كل عروض الصلح التي قدمها الصليبيون وفي يوم 17/ جماد الأولى/690 ه الموافق 18/ مايو/1291م تم استرداد عكا من الصليبيين، وتم أيضاً استرداد باقي القلاع الصليبية التي كانت بأيديهم، وبالفعل تمكن المماليك من طرد الصليبيين من بلاد الشام نهائياً، وانتهت مأساة وجودهم في البلاد الإسلامية التي ظلت حوالي قرنين من الزمن، وبذلك انكسر الحلم المراد تحقيقه إلى الأبد. وختاماً بعد هذه السلسلة من المقالات التي اجتهدت في ربط الجيل الجديد من أبناء المسلمين بمرحلة تاريخية مهمة فيها من المواعظ والعبر ما لا يمكن حصره، ومن أهمها أن هذه الأمة العظيمة قد كتبت تاريخها بنفسها، وتحملت مسؤوليته برغم أنني لا أنكر وجود بعض النزاعات والمصالح الشخصية الضيّقة في بعض أحداث هذا التاريخ، إلا أنني أثق بأن التاريخ الإسلامي مشرّف وناصع ويستحق عناية واهتماماً خاصاً من أبنائنا ومنا جميعا، وهل لعاقل أن يُنكر أن التاريخ أحد أهم روابط الأمة؟!