سوف أتحدث في هذا المقال عن الفترة التي تلت فشل الحملة الصليبية الخامسة التي هاجمت مصر واحتلت دمياط إلا أنهم فشلوا في تحقيق هدفهم ومخططهم، وغادروا مصر بعد توقيع الهدنة التي تمت بينهم وبين الملك الكامل محمد صاحب مصر. دبّ الخلاف بين أبناء الملك العادل الثلاثة، فاتفق الملك الكامل محمد مع أخيه الملك الأشرف موسى ضد أخيهما الملك المعظم عيسى صاحب دمشق وذلك سنة 620 ه/1223م، وازداد الصراع شراسة عندما اتفق الملك المعظم عيسى مع صاحب أربيل وهي من مدن الموصل وذلك سنة 623 ه/1226م، فأصبح الوضع السياسي في بلاد الشام ومصر غير مستقر بسبب هذا النزاع، حتى أن الملك الكامل محمد ورداً على اتصال أخيه الملك المعظم بصاحب أربيل اتصل هو بالإمبراطور الألماني فردريك الثاني في نفس السنة يستنجد به ضد أخيه الملك المعظم فتردى الوضع السياسي للدولة الأيوبية التي تحكم بلاد الشام ومصر وأصبح هناك انقسام كبير بين الأخوة، والنيات أصبحت غير صالحة فيما بينهم وأن نذير الحرب لابد منه، إلا أنه في سنة 624 ه/1227م توفي صاحب دمشق الملك المعظم عيسى وبدأت ظروف الأزمة في الانفراج بسبب ضعف ابن الملك المعظم عيسى وهو «الناصر داود» وبدأ يفكر الملك الكامل في ضم دمشق إليه، إلا أن هناك أمراً حدث لم يحسب له الملك الكامل أي حساب وهو قدوم الإمبراطور الألماني إلى بلاد الشام سنة 625 ه/1228م حيث أرسل إليه بأن ينفذ بنود الاتفاق الذي بينهم وهو تسليمه القدس. وكان الإمبراطور الألماني فردريك قدم إلى بلاد الشام على رأس حملة صغيرة تقدر بالمئات وكان باستطاعة الكامل محمد الوقوف في وجهه وعدم الاستجابة له خاصة أن هناك معارضة شديدة من أوروبا خاصة البابا جريجوري التاسع الذي أصدر «فراماناً» بابوياً في حق الإمبراطور بمنعه من القيام بحملة صليبية على بلاد الشام، إلا أن الإمبراطور خالف كلامه وقدم إلى بلاد الشام على رأس حملة ضعيفة جداً مستنداً على الاتفاق الذي بينه وبين الملك الكامل محمد، وعندما وصل بدأ باتصاله بالكامل يذكره بالاتفاق فاستمرت المفاوضات حوالي 6 أشهر حتى تم توقيع هدنة بين الجانبين سنة 626 ه/1229م أهم بنودها: تسليم القدس للصليبيين شريطة عدم تجديد سورها، تكون مدة الهدنة 10 سنوات، وتعد هذه الهدنة من أغرب الهدن التي عقدت بين المسلمين والصليبيين إبان الحرب التي بينهم لأنه تم تسليم القدس للصليبيين بكل سهولة بعد أن حررها السلطان صلاح الدين الأيوبي من أيديهم وسيطرتهم، ولكن لعبت المصالح الشخصية دوراً كبيراً في التفريط بالقدس بهذا الشكل المخجل، وكان السبب الرئيس من وجهة نظري هو انقسام البيت الأيوبي على بعضه والنزاع الذي حدث بين الأخوة وراء انعقاد هذه الهدنة وخسارة المسلمين للقدس، ولتسليم القدس للإمبراطور قصة تم ذكرها في أغلب المصادر التاريخية التي كتبت عن هذه الهدنة، وعندما بدأ المسؤولون المناداة بخروج المسلمين من القدس تمهيداً لتسليمها للصليبيين اشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل من قبل المسلمين الذين كانوا يقطنون القدس في تلك الفترة، وأقيم العزاء في جميع بلاد المسلمين، وقام المؤذنون بحركة غريبة لعلهم يستطيعون التأثير على الملك الكامل والرجوع عن قراره فذهبوا إلى مخيمه وأذّنوا على بابه في غير وقت الأذان، فأمر الكامل بأخذ ما معهم من القناديل والآلات وزجرهم وطردهم من مخيمه فعظم الأمر على المسلمين في كل مكان، وحاول صاحب دمشق الملك الناصر داود أن يستغل الموقف لصالحه ويثير الرأي العام على عمه الكامل فأمر سبط ابن الجوزي أن يجلس بجامع دمشق ويثير حماسة المسلمين ضد عمه الكامل وكان سبط ابن الجوزي واعظاً له قبول عند الكثير من الناس، فجلس ابن الجوزي في الجامع ومما قاله: «انقطعت عن بيت المقدس وفود الزائرين، يا وحشة المجاورين، كم لهم في تلك الأماكن من ركعة وكم جرت لهم على تلك المساكن من دمعة، تالله عيونهم عيوناً لما وفت، ولو انقطعت قلوبهم أسفاً لما شفت، أحسن الله عزاء المؤمنين، يا خجلة ملوك المسلمين، لمثل هذه الحادثة تُسكب العبرات، ولمثلها تتقطع القلوب من الزفرات…. إلى آخر ما قال» وبعد ذلك علا ضجيج الناس وبكاؤهم وعويلهم على فقد القدس وتسليمها للصليبيين. عموماً تغيّرت الخريطة السياسية في بلاد الشام بعد أن فرّط الملك الكامل بالقدس، حيث أصبحت السيطرة الفعلية على القدس للصليبيين وعادت القدس إلى حظيرة الصليبيين مع بعض القرى التابعة لها، وعندما تم توقيع الهدنة بين الملك الكامل وفريدريك استأذن فريدريك الملك الكامل في زيارة القدس فأذن له وجعل القاضي شمس الدين قاضي نابلس هو المرافق الشخصي له حتى رجوعه إلى عكا وأعطاه التعليمات التي يجب أن تنفذ عند وصول الإمبراطور إلى القدس ومنها منع المؤذنين من الأذان في تلك الليلة احتراماً للإمبراطور، حتى أن الإمبراطور استنكر هذا العمل وسأل القاضي عن سبب توقف المؤذنين عن الأذان فقال له: إنه هو الذي منعهم احتراماً له فقال الإمبراطور: أخطأت فيما فعلت، والله إنه كان أكثر غرضي في المبيت في القدس هو سماع أذان المؤذنين في الليل. عموما تُعد هذه الهدنة من أغرب الهدن التي حدثت بين المسلمين والصليبيين آنذاك حيث تم تسليم القدس بكل بساطة ولم يكن للرأي العام أي احترام أو تقدير الذي تأثر بذلك القرار ولكنه لا يستطيع فعل أي شيء بسبب سطوة وقسوة الملك الكامل محمد، حتى أغلب المؤرخين والعلماء المعاصرين لفترة الملك الكامل حاولوا إيجاد التبريرات لما قام به الكامل من تسليم القدس للصليبيين، ما عدا سبط ابن الجوزي الذي كان يتبع لصاحب دمشق الملك الناصر داود هو الذي وقف في وجه الكامل حتى أن الكامل يقال إنه هدّد إن قبض عليه ليقتلنه، ومهما يكن فإن الملك الكامل أخطأ خطأً كبيراً في حق الإسلام والمسلمين بتسليم القدس إلى الصليبيين بهذه الهدنة العجيبة، حيث لم تعد إلى حظيرة المسلمين إلا عام 642 ه/1244م عندما قدم الخوارزمية حلفاء الملك الصالح نجم الدين أيوب في 10 آلاف مقاتل وهجموا على القدس وبذلوا السيف فيمن كان فيه من الصليبيين وعاد بيت المقدس إلى المسلمين وفقده الصليبيون نهائياً.