ألقى رئيس تحرير جريدة «الجزيرة»، خالد بن حمد المالك، الإثنين الماضي في جامعة الملك عبد العزيز بجدة ضمن نشاطات كرسي الأمير خالد الفيصل لتأصيل منهج الاعتدال السعودي محاضرة بعنوان «التجربة الصحفية بالمملكة في ضوء منهج الاعتدال السعودي». وكان الأمير الفيصل قدم مؤخراً محاضرة عرض فيها مراحل تكوُّن الدولة السعودية، بدءاً من قيام الدولة السعودية الأولى، ثم الثانية، وحتى مجيء الدولة السعودية التي نعيش في ظلالها، وصولاً إلى المواجهة التي لم تهدأ بين ظاهرتي التطرف والاعتدال، وكيف كانت الغلبة في النهاية ودائماً لصالح ظاهرة الاعتدال. من هنا يبدأ المالك محاضرته، و»الشرق» إذ تنشر هنا جزءاً من هذه المحاضرة، تحاول التركيز على أهم ما جاء فيها، رغم أهمية تفاصيلها جميعاً: الإرهاب والإعلام ما من دولة سادها التطرف، أو غزاها عدم الاعتدال، أو مارست فئات من أهلها شكلاً من أشكال التطرف، إلا وكان مآلها التخريب والفوضى والاعتداء على حريات الآخرين، مثلما هو مشاهد الآن في كثير من الدول، حيث القتل والتدمير والإرهاب، وممارسة كل ما يرمز أو يؤدي إلى أعمال تخريبية يتم القيام بها عن عمد وعن ترصد، لتصل في النهاية إلى الهدف المطلوب في خلق بيئة مضطربة، يعتدي فيها القوي على الضعيف، وتغيب فيها المصالح العامة، وتختفي معها القيادات وتسلسل المسؤوليات التي تدير مصالح الأمة في ظروف تكون مهيأة لخلق مثل هذه الأجواء من الفوضى المؤذية التي لا يجد الناس فيها من يحتكمون إليه. وما من شك في أن وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء تلعب دوراً مهماً ورئيساً ومؤثراً في تأصيل منهج الاعتدال وفي محاربة التطرف إن هي التزمت برسالتها وتمسكت بالمبادئ التي قامت عليها، غير أن التطرف لا يخلو من قدرته على اختراق بعض وسائل الإعلام وتوظيفها لخدمة أهدافه، حيث جعل من التقنية ووسائل الاتصال المتاحة أمامه أدوات لاستخدامها في توسيع شبكته الإعلامية ضمن تجنيده لعناصر بشرية قادرة على تغليب مبدأ التطرف على مبدأ الاعتدال في طروحاتها وتنظيراتها، وهو ما يعني أن الإعلام بكل وسائله وأنواعه يمكن النظر إليه على أنه قوة كبيرة ومؤثرة في الحرب الشرسة بين التطرف والاعتدال. ومثلما تحدث الأمير خالد الفيصل في محاضرته هنا عن تأصيل منهج الاعتدال السعودي، بدءاً بما اعتبر سموه أن الملك عبدالعزيز هو المؤسس الحقيقي لمنهج الاعتدال السعودي، مروراً بما أورده من شواهد على استمرار هذا النهج خلال تولي خمسة من الملوك سدة الحكم في البلاد هم على التوالي سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله، ما يعني استمرار هذا النهج منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز. النقد النزيه وكامتداد تاريخي لسياسة الاعتدال في صحفنا، أريد أن أذكركم بما قاله الملك سعود في مؤتمر صحفي عقده عام 1381ه بحضور عدد من الصحفيين السعوديين (بحسب ما رواه الدكتور هاشم عبده هاشم – في محاضرة له بعنوان: الإعلام السعودي دراسة في الهوية الإسلامية) من أن الصحافة إما أنها رسول خير أو رسول غير ذلك، بأمل أن تكون رسل خير باتجاهاتها، مطالباً إياها بأن توجه الجمهور التوجيه الحسن، وأن لا تقول غير الحق حتى تحترم في الداخل والخارج. يضيف الملك سعود – رحمه الله – بأن الصحافة حرة في دائرة العقل والحكمة، وأنه لا يمنع الصحافة من النقد، وإنما يطلب منها أن يكون نقدها للمصلحة العامة، بعيداً عن الأهواء والأغراض والتوجهات المغرضة، مشيراً إلى أن النقد النزيه من هذا النوع هو الذي ينبغي أن تمارسه الصحف باعتباره يصب في خير الوطن. ومن يقرأ الصحف المحلية بتأمل سيجد أنها، وبعد أكثر من نصف قرن على هذا المؤتمر الصحفي للملك سعود، ما زالت تتمسك بهذا النهج في تعاطيها مع الكلمة، وأنها تلتزم بهذه السياسة في ممارسة دورها المعتدل بوصفه خيارها الذي ارتضته لنفسها، ورسالتها التي لم تحد عنها، وسياستها التي ميزتها ووضعتها في دائرة الاهتمام والتأثير في قرائها. فيما عبَّر الملك فيصل – رحمه الله – عن رؤيته نحو الصحافة المحلية في منهج اعتدالي واضح يتوافق مع مشهد الاعتدال في الصحافة المحلية حالياً – بحسب ما نُشر في صحيفة البلاد عام 1379ه – بأن قال: إنني أرحب بالنقد، ولكن بشرط أن يكون بنَّاءً، وإني لا أريد أن تكون صحافتنا مجالاً لتضارب الآراء، أو المحاولة في أن يبني بعضنا مجداً على حساب الآخرين، فهذا – كما يقول الفيصل – يفقدها مهماتها الأساسية التي يجب أن تتجلى بها، مضيفاً: يجب على الصحافة أن تكون موجهة للأمة والرأي العام، والتوجيه مسؤولية كبرى. صحافة للوطن ومن المؤكد أن أحداً لا يعترف بأن له موقفاً غير مؤيد للاعتدال، سواء في الصحافة، أو في الحياة العامة، لكن ثقافة الاعتدال تختلف من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى غيره من المجتمعات، ومن هنا يأتي التعامل مع هذا المصطلح، وتحديداً عند التطبيق شديد الحساسية، ولهذا ربما لاحظ الجميع التباين بين الصحف المحلية في التعامل مع بعض الأحداث، لكنه لا يخرج عادة عن السياق العام في احترامها للاعتدال، وإيمانها بالوسطية، وحرصها على أن يكون موقفها الديني والوطني والعروبي المعتدل والوسطي حاضراً، والنظر إلى التطرف والعنف والإرهاب والإقصاء للآخر على أنها مجتمعة أو منفردة تشكل ظاهرة خطيرة تهدد السلم الوطني، وتقوض الأمن، وتزرع الكراهية والبغضاء بين المواطنين. ولذلك فقد نأت الصحافة السعودية بنفسها عن أي انتماءات طائفية أو مذهبية أو قبلية أو مناطقية، واختارت لنفسها النظر إلى الوطن بمناطقه ومدنه وقراه على أنه وطن الجميع، وتعاملتْ مع كل شرائح المجتمع دون تمييز، ووقفتْ على مسافة واحدة من كل أجزاء الوطن ومن كل فئات المواطنين، ملتزمة مبدأ الاعتدال في مخاطباتها وآرائها, والوسطية في التعامل مع الأشياء، مع الاحتفاظ لنفسها بالموقف الذي يكرس هذا الاتجاه المعتدل، ويعمم ثقافته بين قرائها، وهو خيار اختطته صحافتنا لنفسها وسارت عليه منذ عهد الملك المؤسس وإلى اليوم. الاعتدال والنجاح قد يكون هناك من يرى في ظاهرة انتشار صحف الإثارة، وسعة مقروئيتها رغم عدم وسطيتها وعدم اعتدالها في مواقفها، مؤشرا على أن الاعتدال لا يقود إلى النجاح، غير أن هذا الرأي وإن كان من جانب له وجاهته، إلا أنه من جانب آخر لا يحمل بالضرورة احترام العقلاء من القراء لهذا النوع من الصحف، ولا يضمن لها ثقة القراء بمصداقيتها فيما تنشره من أخبار وتعليقات، وإن احتفظتْ لنفسها بعدد غير قليل من القراء بحكم حب الفضول لدى قرائها في التعرف على ما هو خارج قيود والتزامات النشر في صحف الاعتدال. وإذا كان الاعتدال كظاهرة توصف بها صحافتنا لإحجامها عن نشر كل ما يسيء إلى المجتمع، أو يشجع على الإرهاب والتطرف والغلو في كل مناحي الحياة، وفي اهتمامها بنشر الحق والخير والدفاع عن قضايا الأمة، وحرصها على الالتزام بوسطيتها في الحوارات والمناقشات والآراء التي تتبناها، فمن الطبيعي أن تكون ثقافة الاعتدال سائدة أيضا بين قرائها، باعتبارهم جزءا من المنظومة الضامنة لنجاح الصحيفة أو فشلها، ومثلما ذكر رفيق خوري رئيس تحرير جريدة الأنوار اللبنانية في ورقة له في أحد المؤتمرات (من أن الإعلام يوصف بأنه أول مسودة للتاريخ، ومن أن المسودات تخضع للتصحيح، وهذا ما يدفعنا إلى القول بضرورة أن لا يخجل الإعلام أو الصحف من التصحيح). أي أننا أمام اجتهادات صحفية قد تحتاج أحيانا إلى التصحيح والتعديل لبلوغ المستوى المطلوب من الاعتدال الذي تلتزم به وتتبناه صحفنا دون ادعاء. مفهوم الاعتدال غير أن ذلك على أهميته لا يلغي أهمية أن نتفق على ضرورة وأهمية أن نحدد مفهومنا للاعتدال والتعرف عليه بعيدا عن التعريفات التي تحفل بها قواميس اللغة، انطلاقا من أن ما أراه معتدلا قد يراه غيري متطرفا، لأننا عندئذ سوف نرى في احتواء كل التيارات والمذاهب داخل الصحافة وعدم الحجر على أي منها هو الاعتدال الحقيقي، طالما أنها تعبر عن منظومة سقفها الأعلى وحدة الوطن وأمنه واستقراره وسلامته، ملتزمين في ذلك بالثوابت الدينية والاجتماعية، واحترام الرأي والرأي الآخر في جو يسوده الإخاء والحب والمساواة في الحقوق والواجبات. وإذا سلمنا بذلك، فلا بد أن يصاحبه أيضا ضمان الرأي ونقيضه في النشر، بحيث لا تبدو الصحيفة منحازة أو متعاطفة مع هذا التيار ضد الآخر، خصوصا وأن نظام المطبوعات كفل للجميع حق التقاضي أمام وزارة الثقافة والإعلام وعبر لجانها المختصة، وفي هذا صورة من صور الاعتدال الذي يلزم صحافتنا بأن تتقيد به وتحترمه، ما جعل روح الاعتدال لا الاستعداء هي السائدة، وهذا هو المنهج الوسطي الذي ينبغي أن تلتزم به صحافتنا. وأختم مشاركتي عن مظاهر الاعتدال في الصحافة السعودية بالقول: إن على المجتمع – ضمن مسؤولياته – أن يشجع ظاهرة الاعتدال في صحافتنا، ويكرس هذا المفهوم بالتأييد والتفاعل مع ما ينشر فيها، ويحثها على الابتعاد عن الغلو والتطرف دينياً وفكرياً وقومياً، وبأن يتم تعاملها مع الآخر والنظر إليه باعتدال، ودون إقصاء، وصولاً إلى حوار لا يلغي حق الآخرين في إبداء آرائهم، بتفهم لمواقفهم دون غلو أو تزمت أو تأثير سلبي في حياة المجتمع، باعتبار أن ذلك ينسجم مع الاعتدال ويتناغم مع الوسطية.