كتبت في السنوات الماضية عددا من المقالات عن موقف ابن تيمية من مسألة الأهلة، وموقفه مما يقوله علماء الفلك عن إمكان الرؤية خاصة. كما كتبت العام الماضي عددا من المقالات عن السبكي الشافعي عن المسألة نفسها. كما كتبت عن ظاهرة اختيار الهيئات الدينية الرسمية في المملكة لرأي الأول في مقابل إغفالها لرأي الثاني. وسأقارن هنا بين موقفي الفقيهين اللذين يتفقان في أمور أساسية، ومع هذا يختلفان في النتائج اللازمة عنها. فهما يتفقان على القول بدقة الفلكيين في رصد الاقتران، وفي تحديد إن كان القمر يغرب قبل الشمس أو بعدها أو معها، وفي إمكان تحديد الدرجة التي يكون عليها القمر بعد غروب الشمس. كما يتفقان على القول بعدم إمكان رؤية الهلال إذا كان على درجة منخفضة، وهي التي حددها ابن تيمية بدرجة واحدة. وهما يتفقان كذلك على أن المعوَّل عليه في إدخال الشهر شهادةُ الشهود العدول في حال الإثبات. غير أنهما يختلفان في أمور جوهرية، منها: 1 أن ابن تيمية يؤول حديث «إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب» على أنه تحريم قطعي للاعتماد على الحساب الفلكي في مسألة الأهلة في حالَي الإثبات والنفي كليهما. وهو يرقى بهذا التحريم ليصل به إلى الخروج عن الإسلام. ويشن حملة ضارية على الفلكيين ويصفهم بالجهل والكذب والنفاق. وهو ينطلق في هذا كله من مبدأ عام مؤداه تحريم الاعتماد على الوسائل العلمية في الأمور الشرعية. أما السبكي فيؤول الحديث نفسَه بأنه تشريع لتقويم إسلامي جديد، ويرى إمكان الاعتماد على الفلكيين في حال النفي، بل يجيز الاعتماد عليهم في حال الإثبات في بعض الأحيان. ويوجه القضاةَ بالرجوع إلى الفلكيين، وإلى الاستئناس بما يقوله حاسب واحد، في مقابل عدم الاعتماد على شاهدين عدلين في بعض الأحيان. 2 كما يختلفان في قبول شهادة الشهود العدول. فيرى ابن تيمية أنه إذا رأى القاضي عدالةَ المتقدم للشهادة فمن الواجب قبول شهادته بغض النظر عن أي اعتبار آخر. ويصل به الأمر إلى توبيخ القضاة الذين يردون شهادة «العدول» اعتمادا على قول الحاسب «الكاذب» بتعبيره. أما السبكي فيرى عدالة من يشهدون برؤية الهلال شرطا واجبا كذلك، لكنها ليست كافية لوحدها لأسباب كثيرة. فربما يكون الشاهد عدلا لكن ربما لا تكون شهادته موافقة لوضع الهلال. إذ ربما يَعرض له، مع عدالته، الوهمُ الذي ينشأ عن عوامل كثيرة. ويستشهد للتدليل على رأيه هذا برؤية أنس بن مالك رضي الله عنه الواهمة المشهورة التي كان سببها شعرة متدلية أمام عينيه وَهَم أنها الهلال. هذا وهو أنس، وهو، كما وصفه السبكي، هو من هو، أي أنه لا يمكن لأحد أن يشك في تدينه وأمانته وصدقه وعدالته. لكن هذا كله شيء، والشهادة المطابقة لواقع الهلال شيء آخر. فإذا صح هذا الوهم على أنس «المشهود له بالعدالة»، لسبب عارض لا يد له فيه، فغيره من الناس مثلُه، أو أولى منه بالوقوع ضحية للوهم. ويؤكد السبكي أن القضاة ربما يثقون ببعض الشهود فيدخلون الشهر اعتمادا على الظن بأنهم عدول. ذلك مع أن بعضهم ربما يكونون، إضافة إلى احتمال الوهم، عرضة لإغراءات الشهرة التي يحوزونها بسبب اعتماد شهادتهم، أو للطمع في الظفر بقرار الحكم بعدالتهم أمام القاضي، وربما يكونون مدفوعين بأغراض دنيوية نفعية أخرى. ويشير إلى أن بعض القضاة ربما لا يكونون أكفاء في اكتشاف وَهْم الشهود. لذلك يوجه القضاة إلى أن يعرفوا بعض الأمور الأساسية في علم الفلك حتى لا يجترئ أحد على استغلال جهلهم فيوقعهم في إصدار أحكام لا تتوافق مع وضع الهلال ليلة الترائي. ومن الملاحظ أن اختيار الهيئات الدينية الرسمية في المملكة لرأي ابن تيمية ليس ناتجا عن عدم معرفتهم بآراء السبكي. فقد أشار إليها عدد من أعضاء هيئة كبار العلماء في أبحاثهم وفتاواهم عن الأهلة. ويمكن التمثيل على تعامل بعض منسوبي هذه الهيئات مع آراء السبكي بالبحث الذي كتبه الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله، العضو السابق في هيئة كبار العلماء، بعنوان «حكم إثبات أول الشهر القمري وتوحيد الرؤية» تعقيبا على قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية المعقودة في جدة سنة 1405 ه. وهو بحث تبنّى فيه الشيخ أبو زيد تبنِّيا كاملا رأي ابن تيمية ولم يخرج عنه، بل دعمه ببعض الآراء المشابهة القديمة والحديثة. ويوحي رده لآراء الإمام السبكي بأن السبكي يُلزم باستخدام الحساب الفلكي في إدخال الشهر. ذلك مع أنه كان واضحا في أن الحساب الفلكي لا يعدو أن يكون وسيلة للتأكد من صحة شهادة الشهود. وهذا إغفال لتصريح السبكي بوقوفه عند نص الحديث الذي يربط بين الرؤية المباشرة وإثبات دخول الشهر. وتتمثل أهم وسيلة للطعن على رأي السبكي، كما هو واضح من بحث الشيخ أبي زيد، هي التشكيك في الحساب الفلكي. فقد احتج في «المبحث السادس» من المقال تحت عنوان «في ظنية الحساب» بأن: «قطعية الحساب لا تقبل إلا بنتائج فاشية تفيد العلم اليقيني بصدق نتيجته واطرادها، وإخبار العدول على رسم الشرع من ذوي البصارة به بذلك، ويبسط طريقته بمحضر من أهل العلم لمعرفة مدى سلامة مقدماته شرعًا، هذا لو جعل الشرع المصير إليه. «والواقع أنه ليس لدينا دليل متوفر على هذا المنوال ليكسب إفادته اليقين إلا شهادة بعض الفلكيين لأنفسهم بأن حسابهم يقيني، والأدلة المادية الآتية تقدح في مؤدى شهادتهم، وتقوي نفي نظرائهم في الفلك من عدم إفادته اليقين كما قررته اللجنة الشرعية الفلكية بالأزهر في قراراتها المطبوعة، إضافة إلى أن الشرع لا يعتبر صدق الخبر والشهادة إلا من مبرز في العدالة الشرعية». ولا يعدو هذا الاحتجاج أن يكون تكرارا بصيغة جديدة لأقوال ابن تيمية يقوم على ثلاثة أمور: 1 اتهام الفلكيين بأنهم لا يُعرَفون بعدالة. وهو اتهام تعميمي لا ينبغي أن يصدر عن باحث، خاصة إن كان فقيها. 2 الإيحاء باختلاف الفلكيين. وهذا ادعاء غير صحيح، كما بينتُ في مقالات سابقة. 3 اشتراطه أن يأتي الدليل على قطعية الحساب من خارج المتخصصين بالفلك! ولو كان الشيخ رحمه الله جادا في اشتراط هذا الشرط لكفتْه شهادةُ السبكي، وهو فقيه لا ينتمي إلى الفلكيين. ومع هذا فهو شرط عجيب؛ ذلك أن المرجع في العلوم كلها هم المتخصصون فيها لا مَنْ هم خارجها. والأسباب التي تقوم عليها اعتراضات ابن تيمية، كما كتبت في مقالات سابقة، لم تعد قائمة الآن، هذا إن كانت قائمة في زمنه. كما أن العمل برأي السبكي أولى الآن؛ ذلك أنه كفيل بالقضاء على أسباب الوهم في الرؤية من خلال الاستفادة من التقدم المتحقق في علوم الفلك، وإمكان الرجوع فيه إلى علماء مسلمين لا يشك في معرفتهم العلمية ولا في حرصهم على السنة النبوية المطهرة في الترائي، وإلى مراكز علمية مشهورة، داخل المملكة وخارجها، يقوم عليها علماء مسلمون موثوقون. والمأمول، أخيرا، أن تعيد الهيئات الدينية الرسمية الموقرة في المملكة النظر في اكتفائها المعهود في هذا الأمر بآراء الإمام ابن تيمية التي تقوم على معطيات لم تعد قائمة الآن.