ذكرتُ في المقال الأول من هذه السلسلة أن للإمام السبكي كتاباً (لا يزال مخطوطاً على حد علمي) بعنوان: «بيان الأدلة في إثبات الأهلة». ووجدتُ في بعض البحوث عن موضوع الأهلة إشارات إلى كتاب آخر له بعنوان «العلم المنشور في إثبات الشهور». ولا أدري إن كان الكتابان كتاباً واحداً بعنوانين مختلفين أم لا؟ ووجدت نسخة من هذا الكتاب الأخير على الإنترنت. وطُبعت في مصر سنة 1329ه، بتحقيق وتعليق الشيخ محمد جمال الدين القاسمي، 56 صفحة. ولا أدري إن كان له طبعات أخرى أم لا؟ ويتضمن الكتاب آراء الإمام السبكي نفسها التي توجد في كتابه «الفتاوى». لكن هناك بعض الزيادات المهمة التي ينبغي الاطلاع عليها لمعرفة مزيد عن آرائه في مسألة الأهلة. وسأورد هنا بعض تلك الزيادات.يبدأ الكتاب بتأكيد رأيه القاضي بالاعتماد على الرؤية البصرية المباشرة للهلال في حالة إثبات دخول الشهر، فيقول عن الحكمة في تعليق إثبات دخول الشهر بالرؤية المباشرة للهلال: «وجعل ذلك عَلَما لهم في الشريعة على الشهر ليكون ضبطا بأمر ظاهر يعرفه كل أحد ولا يغلط فيه. بخلاف الحساب فإنه لا يعرفه إلا القليل من الناس، ويقع الغلط فيه كثيراً للتقصير في علمه، ولبُعد مقدماته. وربما كان بعضها ظنياً، فاقتضت الحكمة الإلهية والشريعة الحنيفية السمحة التخفيف عن العباد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس من الرؤية أو إكمال العدد»(ص6). ولا يختلف هذا الرأي عن رأي ابن تيمية وغيره، لكنه يزيد عليهم بأن من أسباب عدم الاعتماد على الحساب في هذه الحالة تقصير المسلمين في تعلم علم الحساب. ويعني هذا أنه ربما لا يمانع في الاعتماد عليه لو انتشرت المعارف الفلكية كما هي في الوقت الحاضر. ويؤكد أن حديث «إنا أمية لا نحسب ولا نكتب» ليس فيه «إبطال قول الحاسب في قوله إن القمر يجتمع مع الشمس أو يفارقها أو تمكن رؤيته أو لا تمكن رؤيته، والحكم بكذبه في ذلك. وإنما في الحديث عدم إناطة الحكم الشرعي وتسمية الشهر به (أي بالحساب)»(ص6).ثم يورد اختلاف الفقهاء في جواز الصوم أو وجوبه في بعض الحالات اعتماداً على الحساب، وهو يختار جواز الصوم في بعض تلك الحالات. ويعلل اختياره بأنه مشروط بحالة أن «ينكشف من علم الحساب انكشافاً جلياً إمكان (الرؤية). ولا يحصل ذلك إلا لماهر في الصنعة (أي الفقه) والعلم (أي الحساب)»(ص7). وينفي أن يكون الحساب من قبيل التنجيم فيقول عن رأي أحد الفقهاء: «وليس هذا من التنجيم في شيء. وما زال الناس في سائر الأعصار والأمصار يعتمدون في الأوقات في الغيم على الحساب بالرمل والماء ونحوهما. وهل ذلك إلا كالتقدير بالأوراد بل أكثر تحريراً».ويعرض لخلاف الفقهاء في مسألة اختلاف مطالع الهلال بين البلدان فيؤكد أن القول باختلاف المطالع «فيه جنوح إلى الحساب لأن المطْلَع إنما يعرف بالحساب»(ص13)، وأن «معرفة توافق البلدين في مطلع الهلال يحتاج إلى حظ جيد من علم الهيئة. ولا يُستنكر نظر الأكثرين إلى الحساب ههنا وإعراضهم عنه إذا لم ير الهلال لأن هناك تجرُّدَ الحساب وحده وهنا انضاف (الحساب) إلى الرؤية في بعض البلاد. فمن هنا نأخذ أن الحساب ليس ملغياً لكن الرؤية في الجملة شرط للحديث (أي كما ينص الحديث)»(ص14). ويورد قول الفقيه المالكي «سَنَد» بأنه «لو كان الإمام يرى الحساب في الهلال فأثبت به لم يتبع لإجماع السلف على خلافه». ثم يورد عليه تعقيب الفقيه «السروجي» بأنه «يمكن أن السلف لم يَعلموا (الحساب)، واكتفوا بالرؤية ولم يجمعوا على منع العمل به». ثم يقول عن تعقيب السروجي: «وهذا الاعتراض جيد»(ص21). واعتراض السروجي وتعقيب السبكي يماثلان ما يقوله كثير من علماء المسلمين الآن وهو أن إجماع السلف ربما يعود إلى أنهم لم يكونوا يعرفون ما نعرفه الآن عن دقة الحساب الفلكي.ثم يستطرد طويلاً في الكلام عن الشهود فيرى أن العدالة لا تكفي لقبول شهادة الشاهد، وينبغي أن تعزز بما ينفي عنها الوهم. ويورد في التدليل على هذا القصة الطريفة المعروفة عن أن أنس بن مالك رضي الله عنه استطلع الهلال مع جماعة فأَخبَر أنه رأى الهلال. وكان أحد الحاضرين القاضي المشهور إياس بن معاوية «فتفطن إياس بذكائه ونظر إلى عين أنس فوجد عليها شعرة بيضاء قد نزلت من حاجبه فرفعها إياس بيده وقال له: «أرني الهلال، قال: لا أَنظُره»(ص23). ولا يشك أحد في عدالة أنس رضي الله «وهو ما هو»، بتعبير السبكي، لكن عدالته لم تمنع من عدم الأخذ بشهادته في رؤية الهلال. ومما يدل على عدم كفاية عدالة الشهود توجيه السبكي للقاضي بأن ينظر «في حال الشهود بعد تحقق عدالتهم وتيقظهم وبراءتهم من الريبة والتهمة وسلامة حواسهم وحدة نظرهم وسلامة الأفق ومحل الهلال وما يقتضيه الحساب من إمكان رؤيته وعدمها. فإن المشهود به شرطُه الإمكان»(ص24). وأن «مما ينبغي للقاضي معرفتُه تسييرُ منازل الشمس والقمر وقربه وبعده منها ووقتِ مفارقته شعاعها وقوسِ النور، وهو قدْرُ ما في جُرمِه وقوسِ المكث»(ص 27). ومع أن هذه الشروط ليست واجبة على القاضي، كما يقول «لأنه في الغالب يحمل الأمر على السلامة وحسن الظن بالشهود، وأنهم ما شهدوا إلا بما رأوه، وأنهم ما رأوه إلا وهو ممكن». إلا أن «الكلام فيمن قامت عنده ريبة أو بَلَغه ما قاله الحساب في ذلك الوقت فإنه يجب عليه التثبت في ذلك ليَعلم صحته من عدمها» (ص28). أما القاضي الذي «يقول، مع دلائل الحساب القطعي أو القريب منه على عدم الإمكان، إنه انشرح صدره (لشهادة الشهود رغم ذلك) فهو أخرق»!!(ص28). والذي يوجب هذه الشروط أنه، كما يقول، قد رأى «من يوثق بعقله ودينه يغلط في رؤيته الهلال كثيراً» (ص24). يضاف إلى ذلك أنه «لو شهد شاهدان عند حاكم أنهما رأيا فِيْلا بحضرتنا ونحن لا نراه كانت شهادتهما مردودة»(ص24). وأخيراً: ألا يمكن القول إن تأويل الإمام السبكي للأحاديث المتعلقة بالهلال وكلامه عن الاستئناس بالحساب، والشروط التي يجب توفرها في الشهود، والفطنة التي يجب أن يكون عليها القضاة هو ما نحتاجه اليوم لإنهاء الخلاف في مسألة الأهلة البسيطة؟