أوردت في المقال السابق نصوصا من خطابات جلادستون عن الإسلام تتعارض مع العبارة المشهورة السيئة المنسوبة إليه عن القرآن الكريم. وهو ما يعني عدم احتمال صدورها عنه. واستكمالا لهذا الأمر أورد هنا أدلة أخرى تؤيد هذه النتيجة. وهناك دليلان مهمّان وردا في بحث روث كلايتن ويندشيفيل الذي أشرت إليه في مقاليَّ السابقين. والدليل الأول أن جلادستون لم يكن طوال حياته، كما تشهد سيرته، بالشخص المتهور الذي يتخذ مواقف عاطفية غير محسوبة. إذ كان يحرص دائما على أن يتخذ مواقفه بناء على أدق المعلومات التي يجب أن تتوفر عن أية قضية. وكان يقدِّر، لكونه سياسيا بارعا، خطورة ردود الأفعال التي يمكن أن تنشأ عن المواقف التي يتخذها. ومن الأدلة على ذلك أن المناصرين للقضية الأرمنية في تسعينيات القرن التاسع عشر، التي نشأت عن المجازر الفظيعة التي ارتكبها العثمانيون ضد الأرمن، حاولوا مرارا دفعه إلى اتخاذ مواقف مساندة لتلك القضية. لكنه كان يرفض دائما، على رغم الإلحاح المتكرر، رفضا قاطعا أن ينخرط في هذا التأييد. وكان يشترط لانخراطه أن يبرز هؤلاء المناصرون أدلة قاطعة على صحة ادعاءاتهم عن المجازر العثمانية التي يزعمون أن الأرمن كانوا يتعرضون لها. فقد اعتذر، مثلا، عن حضور مؤتمر دعا إليه أولئك المناصرون في 17 ديسمبر 1894م متعللا بكبر سنه لكنه أكد في جوابه على الدعوة أنه لابد أن يقدم هؤلاء أقوى الأدلة وأصحها على وقوع تلك الفظائع. كما زاره بعض هؤلاء المناصرين في بيته لتهنئته بعيد ميلاده الخامس والثمانين في 29 ديسمبر 1894م وقدموا له بعض الهدايا بهذه المناسبة وطلبوا مناصرته لقضيتهم. لكنه أجابهم بشكل صارم قائلا: «يجب أن تتحمل كل أمة، بل أن يتحمل كل فرد إن دعت الحاجة، المسؤولية باسم الإنسانية والعدالة. ويجب علينا (حين نتصدى لحمل هذه المسؤولية) أن نتصرف بطريقة لا نظلم فيها أحدا، وكلما كانت الاتهامات أكبر كان واجبنا أكبر لأن نكون أكثر حرصا في تحمل المسؤولية حتى لا نقع ضحية للتصرف انطلاقا من إحسان الظن بسلامة موقفنا. لهذا يجب علينا أن نتريث حتى نحصل على أدق التفاصيل عن هذه القضية ثم نرى ما سنقوله انطلاقا من الحقائق المؤكدة». وشارك جلادستون في مؤتمر آخر عن تلك القضية عقده أولئك المناصرون في 6 أغسطس 1895م. وسبقه في التحدث إلى المؤتمر عدد من الخطباء الذين بلغ بهم الأمر إلى التفوه بأقوال كريهة ضد الإسلام. ولما جاء دوره لإلقاء كلمته صرّح بشكل حاسم بأن الأمر يجب ألا يصل (بالمؤتمرين) إلى تحويل الموقف من كونه تنديدا بجرائم الحكومة العثمانية إلى موقف معاد للإسلام والمسلمين بعامة، ولمواطني الإمبراطورية العثمانية خاصة» (أوردت في المقال السابق بعض عباراته في هذا المعنى). وعلقت صحيفة «التايمز» البريطانية على خطابه ذاك في افتتاحيتها في اليوم التالي (7 أغسطس 1895م) قائلة: «إن (موقف جلادستون) يبعث على الاطمئنان إلى أبعد الحدود، ذلك أن بعض مناصري القضية الأرمنية ذهبوا بعيدا إلى حد اتهام دين المسلمين بأنه يجعل أي إصلاح له مستحيلا إلا تحت ضغط قوي، وهو ادعاء مؤذ لملايين المسلمين من رعايا الملكة. إنه ليس من الضروري ولا من المهم أن تقيم ادعاءنا بمعالجة مظالم الأرمن على هذا الأساس النظري». ومع هذا فقد خلط بعض الكتّاب المسلمين بين مواقف أولئك الخطباء وموقف جلادستون، وصوروا ما حدث في ذلك المؤتمر من عداء للإسلام والمسلمين على أنه صادر منه. ومن هؤلاء المؤلفين الذين ناقشتْهم روث كلايتن ويندشيفيل في بحثها همايون أنصاري في كتابه، «المشركون في الداخل: المسلمون في بريطانيا منذ 1800م»، (2004م) Humayun Ansari, The Infidel Within: Muslims in Britain since 1800 (2004)، الذي أورد العبارة نقلا عن مصدر ثانوي. أما الدليل الثاني فيتمثل في موقف السيد أمير علي (1849 1928م) وهو، كما تقول الباحثة محام هندي: «أكمل دراسته الجامعية في الهند وجاء إلى بريطانيا في يناير 1869م. وعمل في مكتب محاماة بريطاني، وكانت له صلات اجتماعية قوية أسهمت في قبوله في المجتمع البريطاني. وكان كذلك عضوا بارزا في الدوائر الليبرالية (البريطانية) وعضوا في نادي الإصلاح (البريطاني) لخمسين سنة تقريبا. وكان مسلما شيعيا ملتزما ومع ذلك كان كأكثر الشيعة الهنود مناصرا للخليفة العثماني السني. وكان يميل للتحديث ويعتقد أن الإسلام ملائم للحياة المعاصرة وقابل للإصلاح». وكان السيد أمير علي متابعا دقيقا لما يحدث في بريطانيا، ومن ذلك متابعته الدقيقة للمؤتمر الذي عقد في 6 أغسطس 1895م. وقد كتب محتجا على ما تفوه به بعض الخطباء في ذلك المؤتمر ضد الإسلام في مقال نشرته دورية «القرن التاسع عشر» Nineteenth Century في عددها الصادر في سبتمبر 1895م، أي في الشهر التالي لعقد المؤتمر، وادعى، كما تقول الباحثة، أنه لمس تيارا خفيا من التحيز ضد الإسلام في كلام جلادستون. وتبين الباحثة أن مصدر هذا الانطباع غير الدقيق هو ما قاله الخطباء الآخرون الذين سبقوه في الكلام في المؤتمر، لا ما قاله هو. وكان أمير علي قد ألف عددا من الكتب لتبيين الجوانب الإيجابية في الإسلام وتدافع عنه ضد هجمات المتطرفين الغربيين، ومنها كتابه «روح الإسلام» The Spirit of Islam. وكانت إحدى الدوريات البريطانية المشهورة نشرت نقدا للكتاب تحت اسم مستعار، تضمن كمًّا كبيرا من الاتهامات للسيد أمير علي بأنه يبالغ في ما أورده من إيجابيات عن الإسلام. فكتب ردا قويا نشرته الدورية نفسها على ذلك النقد الذي وصفه بأنه «هجوم مسموم على محمد ودينه»، وهو نقد تسبب في إثارة «شعور قوي من المرارة» عند المسلمين في بريطانياوالهند والمستعمرات الأخرى». وقد اكتُشف سريعا أن كاتب النقد هو مالكولم ماكول Malcolm MacColl أحد المقربين من جلادستون. ويعني هذا كله أن الحضور البارز للسيد أمير علي في المشهد السياسي والفكري البريطاني في تلك الفترة وردوده القوية على ما تنشره وسائل الإعلام والوسائط الثقافية الأخرى، وما يتفوه به بعض السياسيين البريطانيين من مواقف معادية للإسلام، يجعل من المستبعد جدا أن تخفى عليه تلك العبارة لو قالها جلادستون، أو قالها غيره، خاصة في ضوء اتهامه لجلادستون بأنه يبطن عداء للإسلام. ويثير هذا عددا من الأسئلة: هل يعقل أن يخفى ورود تلك العبارة على السيد أمير علي؟ هل يعقل ألا يحتج على قائلها وهو قد احتج على ما هو أدنى منها؟ أيمكن أن تتواطأ الصحف البريطانية والهندية، المعاصرة لتلك الفترة، على عدم نشر تلك العبارة؟ كيف تنشر تلك الصحف ما هو أقل بذاءة من تلك العبارة، ولا تنشرها أية واحدة منها؟ كيف يمكن لواحدة من أهم الصحف البريطانية النافذة في تلك الفترة الثناء على موقف جلادستون المعتدل من الإسلام والمسلمين لو أنه قال تلك العبارة؟ كيف يمكن أن تخفي تلك الصحف جميعها إيرادها مع أن المجال السياسي والثقافي بعامة في تلك الفترة لم يكن يتردد عن نشر المواقف المعادية للإسلام والمسلمين؟ لا يتسع المجال هنا للوفاء بما وعدتُ به في المقال السابق من تبيين المصدر المحتمل لتلك العبارة، فعذرا! وهو ما سأتناوله في المقال التالي!!