بيَّنتُ في المقال السابق أن المقالات والخطب والكتب الكثيرة، بالعربية والإنجليزية، التي تنسب العبارة التي ترجمتُها ب «مادام هذا الكتاب (القرآن) موجودا فلن يكون هناك سلام في العالم»، إلى رئيس وزراء بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر وليم جلادستون لا تذكر، جميعُها، المصدر الأصلي الذي وردت فيه ولا المصدر الثانوي الذي يوردها، وأن كثيرا ممن يذكرون مصدرا لها يرجعون إلى ترجمة عمر فروخ لكتاب المستشرق النمساوي المسلم محمد أسد «الإسلام على مفترق الطرق». وهي نسبة لا تصح للكتاب الأصل لأنها من إضافات المترجم الذي لم يبين المصدر الذي أخذها عنه. وعدم نسبة العبارة لأي مصدر أوَّليّ دليل قوي على عدم صحة نسبتها إلى جلادستون، وربما عدم صحتها أساسا. وهذا ما تؤيده أدلة أخرى. ومن أقوى تلك الأدلة أنها لا ترد في بعض الكتب التي كان يجب أن ترد فيها لو كانت صحيحة. ومن أهم هذه الكتب كتاب «الاستشراق» (1978م) لمؤلفه الشهير إدوارد سعيد. فقد ناقش فيه بتوسع مواقف عدد من السياسيين البريطانيين في تلك الفترة ومقولاتهم وسياساتهم تجاه الشرق وثقافته وتجاه الإسلام خاصة. ومن السياسيين الذين عرض لهم: رئيس الوزراء البريطاني دزرائيلي، ووزير الخارجية البريطانية بولفور، صاحب التصريح المشؤوم عن وعد الحكومة البريطانية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، واللورد كرومر الذي تولى إدارة مصر بعد الاحتلال البريطاني لها في أواخر القرن التاسع عشر، وغيرهم. ولم يعرض إدوارد سعيد بكلمة واحدة لجلادستون؛ فلم يورد اسمه في الكتاب إطلاقا، ولا يوجد مدخل لاسمه في فهرس الكتاب تبعا لذلك، كما لا يوجد مدخل للقرآن الكريم في الفهرس نفسه، ويعني ذلك أنه لم يناقش دور جلادستون في ما يخص نظرة الغرب في تلك الفترة إلى الإسلام أو الحضارة العربية أو الشرق بعامة. والمؤكد أنه لو وجد إدوارد سعيد مصدرا موثوقا ينسب تلك العبارة لجلادستون لعرض له وناقشه منتقدا الموقف الذي تصوره العبارة، بل ربما كان نقده له ولعبارته أقوى من أي نقد وجهه لغيره من السياسيين الغربيين، والبريطانيين خاصة، الذين نسبت إليهم مواقف وأقوال معادية للشرق والثقافة الشرقية أقل عدوانا من هذه العبارة. وهناك مصدر غير مباشر آخر يشهد بعدم صحة نسبة هذه المقولة إلى جلادستون. ذلك هو كتاب «الحضارة ومضامينُها» (ترجمة عبد النور خراقي، الكويت: عالم المعرفة، العدد 412، [2000م] مايو 2014م) لمؤلفه بروس مازليش. فلم يذكر مازليش جلادستون إطلاقا، ولم يعرض لتلك العبارة تبعا لذلك، مع أنه أورد مقولات عنصرية كثيرة ضد الشرق، والإسلام خاصة، تفوَّه بها كتّاب وسياسيون وفلاسفة وعلماء غربيون كثر وناقشها. ولم تكن تلك المقولات أكثر شناعة من هذه المقولة. ولاستقصاء نسبة العبارة إلى جلادستون، كتبت رسالة إلكترونية (2014/5/27م) للسيد جاري بتلر Gary Butler) [email protected]) الأمين المساعد لمكتبة جلادستون في بريطانيا طالبا منه البحث عن المصدر الأصلي الذي نسب هذه العبارة إلى جلادستون. فأجابني السيد بتلر برسالة إلكترونية (2014/5/28م) ترجمتُها كالتالي: «شكرا جزيلا على اتصالك بنا عن أصل التعليقات التي يكثر الاحتجاج بها منسوبة إلى جلادستون عن الإسلام والقرآن. وقد تسلمنا مؤخرا عددا من التساؤلات المتعلقة باستخدام هذه العبارة، نتيجة لورودها في برنامج بثته هيئة الإذاعة البريطانية. ومن المستبعد جدا، على حد ما نعلم، أن تنسب العبارة إلى جلادستون، ذلك أن المؤكد أنها لا تمثل ملحوظاته الأخرى عن الإسلام. وسوف يوافيك السيد بيتر فرانسيس، أمين المكتبة، بإجابة أكثر تفصيلا عن أصل العبارة. وقد أحلت تساؤلك إليه وسيكتب لك إجابة أوفى قريبا جدا». ثم تلقيت رسالة إلكترونية من السيد فرانسيس ([email protected]) في اليوم نفسه يقول فيها: «أحال إلي زميلي رسالتك الإلكترونية بخصوص العبارة المنسوبة إلى جلادستون، وهي التي لا توجد أية إشارة إليها في سجل جمعية «هانسارد» hansard (جمعية بريطانية بحثية تهتم بتثقيف الجمهور البريطاني بالقيم الديموقراطية وممارستها وتهتم بسجل النقاش في مجلس العموم البريطاني ولها سمعة عالمية في هذا الشأن) ولا في الصحف المعاصرة لجلادستون، ومن الواضح جدا أنها لا تتناسب مع شخصيته. إن أية عداوة عبَّر عنها جلادستون إنما كانت ضد الإمبراطورية العثمانية وسياسات التطهير العرقي التي كانت تمارسها. أما في الأحوال الأخرى كلها فكان متسامحا مع الأديان والمذاهب الأخرى كلها. وكان من المعجبين بالرسول (صلى الله عليه وسلم) وبأخلاقيات الإسلام. وتعبِّر الورقة البحثية التي طلبتُ من السيدة روث كلايتون وينشدشيفيل إرسالها إليك تعبيرا جيدا عن هذه القضية، وهي رد أكاديمي على أولئك الذين يصورون جلادستون بأنه معاد للإسلام. وقد أسس جلادستون مكتبته بشكل قصد منه الاهتمام بالأديان والإيديولوجيات كلها وهو ما لا يتفق بشكل واضح مع صحة صدور تلك العبارة عنه. وقد أسسنا في مكتبته غرفة خاصة للقراءة عن الإسلام (باسم: «بيت الحكمة») لتكون إسهاما منا في الاحتفال بمرور مائتي عام على ولادته. إننا نظن أنه لو كان جلادستون حيا الآن لوجَّه جل اهتمامه إلى قضية ندرة المعلومات والدعايات المضللة بين المسيحية والإسلام وقد اقترحنا أن نقوم بشيء عن هاتين القضيتين باسمه». ومما تقوله المكتبة في منشورها التعريفي عن موقفه من الإسلام: «ظل اهتمام جلادستون بالإسلام والعالم الإسلامي في القرن التاسع عشر وتوجهاته الخاصة نحو ذلك موضوعا لتأويلات وتخرصات كثيرة متنوعة لكنها جميعا تفتقر إلى أي تناول علمي جيد. وغالبا ما ترد العبارات التي يدعى أنه قالها عن تلك الموضوعات إما مجردة من سياقها أو بأشكال لا يمكن التأكد من صحتها. ومما يؤسف له إذن أن تتعرض سمعتُه، بوصفه رائدا لليبرالية، وتراثُه في مجال العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، للغموض. «ويجب أن ينظر إلى تصريحات جلادستون في سياق النزاع بين الإمبراطوريتين البريطانية والعثمانية طوال القرن التاسع عشر. أما عن وجهات نظره السياسية فيجب التمييز بين نظرته إلى المصالح البريطانية في الخارج، واهتمامه بالأقليات في الإمبراطورية العثمانية في الخارج، والأجندة العلنية المعادية للإسلام التي يتبناها كثير من رجال الدين والسياسيين (البريطانيين) الذين ربطوا أنفسهم بسياسات جلادستون «الشرقية». كما يجب أن ينظر إليه بشكل مماثل، في ما يخص آراءه الشخصية، من خلال دفاعه عن الدين (المسيحي خاصة) في الحياة العامة، والتزامه بالحرية الشخصية – أي بحق الفرد في اختيار الدين الذي يدين به. «أما ما يراه جلادستون فهو أنه يجب أن يؤسس الحكم على الأديان (والحوار بينها) على البحث الفكري الجاد والاحتجاج العقلاني. وكانت هذه المقاربة أساسية للقيم التي أرساها للمكتبة نفسها، وهو ما تصوِّره مجموعاتنا الكثيرة المتنوعة (من المصادر) التي تبرع بها (وقرأها!) عن الأديان والثقافات الأخرى. وتنبئ كثير من تصريحاته وتعليقاته على هوامش مجموعاته الشاملة من الكتب عن الإسلام عن وجهة نظر عن الإسلام أكثر تعقيدا مما تصوره الدعاية ونظرة حلفائه السياسيين في زمنه». وأكرر هنا ما كتبتُه في المقال السابق بأن هدفي من كتابة هذه المقالات ليس الدفاع عن جلادستون بل الدفاع عن المنهجية العلمية التي توجب التأكد من صحة النصوص التي يستشهد بها. هذا أولاً، ثم استنقاذ الخطاب الإسلامي من العبارات التهييجية غير الصحيحة.