أشرت في المقال السابق إلى ما يكاد يجمع عليه الباحثون من أن العبارة التي يحذر فيها جلادستون من خطر المسلمين المتمسكين بالقرآن الكريم على أوروبا لا تتماشى مع مواقفه المعروفة. ومن آخر هؤلاء البروفيسور روجر أوين Roger Owen، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الاقتصادي والسياسي منذ بداية القرن التاسع عشر في جامعة هارفارد، (الذي يرى أنه لا يحتمل صدورها عنه في رسالة إليكترونية (2014/6/9م) جوابا عن رسالة بعثتها إليه للاستفادة من خبرته الواسعة بمصادر تلك الفترة عن صحة نسبة العبارة إلى جلادستون). وكان التحقق من صحة صدور تلك العبارة عن جلادستون، كما أوردت في المقالين السابقين، موضوعا اهتم به بعض الباحثين المتخصصين في تراثه. ومن هؤلاء الباحثة روث كلايتون وندشيفيل في ورقة بحثية طويلة عن مواقف جلادستون من الإسلام ألقتْها في المؤتمر الذي استضافتْه «غرفة دار الحكمة» التابعة لمكتبته في 2009/9/11م بعنوان: «أهي قضية إنسانية: جلادستون، وأرمينيا، والإسلام»Ruth Clayton Windscheffel, «A Question of Humanity? Gladstone, Armenia, and Islam. تتبعت الباحثة في ورقتها بعض الباحثين، المسلمين والغربيين، الذين أوردوا تلك العبارة منسوبة إلى جلادستون، من غير إسناد إلى مصدر أوّلي، واستخدموها لتصوير موقفه على أنه كان معاديا للإسلام. وبينتْ أن هذه النسبة، بالإضافة إلى عدم ورودها في أي مصدر أصلي، لا تتوافق مع مواقفه السياسية المعلنة عن الإسلام، كما ترسم في بحثها صورة مفصلة للسياق السياسي الداخلي والظروف الخارجية التي اتخذ فيها تلك المواقف. أما عن العبارة نفسها فتقول إنها لم تجد مصدرا أصليا واحدا أوردها؛ فهي لا توجد في سجلات جمعية هانسارد Hansard (جمعية تهتم بتثقيف البريطانيين عن الديموقراطية وتحتفظ بسجلات للمداولات في البرلمان البريطاني)، ولم ترد في أية صحيفة بريطانية أو غير بريطانية من تلك الفترة، وهي التي لا يمكن أن تخفى عليها لو قالها. وتتحدث الباحثة بتوسع عن القضايا التي جعلت جلادستون يتخذ حيالها مواقف صارمة من الإمبراطورية العثمانية. وكان أهمها ارتكاب الجنود العثمانيين مجازر فظيعة ضد سكان بلغاريا «المسيحيين»، في سبعينيات القرن التاسع عشر، ذهب ضحيتها أكثر من مائتي ألف من المدنيين. وتورد تصريحاتِه الكثيرة التي عبر فيها عن تلك المواقف التي يؤكد فيها أن مبعثها لم يكن الدين ولا الوطنية بل المنطلقات ال «إنسانية». ومن ذلك قوله في خطاب ألقاه في 1876/9/11م إن مواقفه تلك لا تقوم على: «أسس حزبية، ولا مجرد الوطنية البريطانية، ولا الدين المسيحي، بل تقوم على أعرض أرضية وأوسعها تلك هي أرضية إنسانيتنا المشتركة». وتورد الباحثة بعضا مما كتبه في كتيبه المشهور :Bulgarian Horrors and the question of the East «الفظائع التي حلَّت ببلغاريا والمسألة الشرقية» المنشور في 1876م. ومما قاله فيه عن موقفه من العثمانيين: «دعوني أعرض باختصار، وبخطوط عامة جدا، لما كان عليه العرق التركي وما هو عليه الآن. إن الأمر لا يتعلق ببساطة بالإسلام (يستخدم عبارة «الدين المحمدي»)، بل يتعلق بالإسلام مقترنا بشخصية غريبة لعِرق معين. إن هذا العرق لا يشبه المسلمين المعتدلين في الهند، ولا صلاح الدين وأتباعه المشهورين بفروسيتهم، ولا المسلمين المتحضرين في إسبانيا (الأندلس). ذلك أن هذا العرق بصفة عامة، ومنذ اليوم الأسود الذي دخل فيه إلى أوروبا، ظل يتميز بعدائه للإنسانية. إنهم يخلِّفون وراءهم أينما ذهبوا شلالا من الدماء، وتتوارى الحضارة عن العيان في كل مكان يصلون إليه. إنهم ممثَّلون في كل مكان بحكومة تحكم بالقوة، بدلا من الحكم بالقانون». كما يؤكد أن المسيحيين ليسوا الوحيدين الذين يعانون من مظالم الحكومة العثمانية بل شملت مظالمها المسلمين واليهود كذلك. ويميز جلادستون، في مناسبة أخرى، بين الحكومة العثمانية والدين الإسلامي قائلا إن «الحكومة التي تؤيد ارتكاب هذه الفظائع وتغطي عليها إنما هي عار في حق محمد في المقام الأول، وهو النبي الذي تدَّعي أنها تتبعه، وهي عار في حق الحضارة بعامة، وهي لعنة على الجنس البشري». ويقول: «صحيح أن الحكومة التي نحاكمها (في هذا الكتيب) حكومة مسلمة، وصحيح أن الذين يتعرضون لظلمها الفظيع، وأولئك الذين يعانون من تلك الفظائع كلها مسيحيون. وصحيح أن مواطني تركيا المسلمين يعانون من مظالم كثيرة لكن ما يعانون منه لا يتجاوز المظالمَ المألوفة التي ترتكبها تلك الحكومة الظالمة وهي التي ربما تكون أفظع حكومة على وجه الأرض… لكني سأقول هنا إنه لو وقع ما نحاكِم الحكومة التركية عليه الآن من حيث معاملتها السيئة لمواطنيها المسيحيين من حكومة مسيحية ضد مواطنيها المسلمين لكان يجب ألا يكون غضبنا أقل، بل يجب أن يكون أقوى من غضبنا الذي نعبِّر عنه الآن». وتورد الباحثة بعض ما قاله في أحد أهم المؤتمرات في أواخر القرن التاسع عشر. ذلك هو المؤتمر السياسي الكبير الذي عقد في 1896/9/24م في ليفربول خلال فترة بلغ فيها العداء للإمبراطورية العثمانية مستوى عاليا في بريطانيا، وتجاوز فيه كثير من كبار السياسيين البريطانيين التعبير عن عداوتهم للإمبراطورية العثمانية إلى التعبير بشكل علني فج عن العداء للإسلام نفسه. وكانت أولى النقاط التي تناولها في خطابه في ذلك المؤتمر الذي حضره أكبر جمع من الناس للاستماع إلى ما يقوله تأكيده أن الفظائع الهمجية التي تعرض لها (البلغاريون) لم يكن سببها التشدد الإسلامي فقط، بل كانت نتيجة للسياسة المتعمدة لحكومة ما (حكومة الإمبراطورية العثمانية)»، ثم استمر في القول: «إننا لا ندين هذه الحال انطلاقا من كون البلغاريين إخوانا مسيحيين لنا. إن موقفنا ليس حربا صليبية ضد الإسلام. إن موقفنا ليس إعلانا عن تغيير سياستنا أو موقفنا تجاه أتباعنا المسلمين في الهند، لا، وأكثر من ذلك أقول: إنه ليس إعلان إدانة ضد المسلمين في الإمبراطورية العثمانية. بل العكس هو الصحيح، إنه مع (المجازر التي ارتكبها الجيش العثماني تجاه المسيحيين) إلا أن هناك مسلمين جيدون وكرماء عارضوا هذه الفظائع بأقصى ما يستطيعون من قوة، وهم الذين استحقوا بذلك إعجابنا وتعاطفنا. ومع أن من الصحيح أن الذين تعرضوا لتلك الفظائع مسيحيون وهم الذين نتحرك للدفاع عنهم الآن إلا أنهم لو كانوا مسلمين، بدلا من كونهم مسيحيين، أو كانوا هندوسا أو بوذيين أو كونفوشيوسيين أو غير ذلك فإنهم سيتلقون منا التأييد نفسه، وسيكون الإجراء الذي سنقوم به مماثلا تماما للإجراء الذي سنقوم به في حالة البلغاريين. إن المنطلق الذي ننطلق منه ليس بريطانيًّا ولا أوروبيا، بل إنسانيا. ليس هناك شيء أقل من الإنسانية يمكن أن يدفعنا». وتلاحظ الباحثة في ختام ورقتها البحثية بعض الأسباب التي أسهمت في التغطية على مواقف جلادستون الإيجابية من الإسلام، فتقول: «مما لا شك فيه أن احترام جلادستون للإسلام بوصفه دينا ورفضَه لإدخاله موضوعا في النقاش السياسي (بين الفرقاء السياسيين البريطانيين في تلك الفترة) كان ولا يزال منذ ذلك الحين ضحية للغموض نتيجة للتصريحات المتطرفة التي كان ينتهجها أولئك الذين شاركوا في الدفاع عن القضية الأرمنية في بريطانيا (أثناء الحرب العالمية الأولى التي قتل العثمانيون خلالها آلافا من الأرمن) وكان ذلك أوضح ما يكون في الفترات التي يبدو فيها الدفاع عن الأرمن ضعيفا أو حين كان أولئك (السياسيون) يتعرضون لهجوم (خصومهم السياسيين)». وسأتناول في المقال التالي المصدر المحتمل الذي أشاع هذه العبارة، والأغراض التي كانت وراء افتئاتها على جلادستون.